الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | أصل الخلاف بين الجنرال المذبوح والكولونيل عبابو

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية "الحلقة 22"

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية
((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)) صدق الله العظيم.
يقول القيدوم الراحل أستاذنا مصطفى العلوي: ((وما كان لأحداث على مستوى خطورة هجوم الصخيرات أن تدرج في مسالك النسيان، دون أن نستخلص الدرس منها، وكان الملك الحسن الثاني رحمه الله، حريصا على إقبار أخبارها وأسرارها، تفاديا لاستمرار البحث عن دوافعها وأسبابها والمسؤولين عنها، بقدر ما يحرص كتاب “الصخيرات المجزرة السياسية” على استخلاص الدرس مما خطته دماء الضحايا، ودموع الثكالى على جبين التاريخ المغربي المعاصر.
فيما يلي، تقدم “الأسبوع” أقوى ما كتبه الراحل مصطفى العلوي عن محاولة انقلاب الصخيرات، عبر حلقات ضمن ركن “الحقيقة الضائعة”.
بقلم: مصطفى العلوي

أول حادثة سياسية ذات مغزى بديع، حصلت للملك الحسن الثاني بعد أن وضع منديلا على وجه جثمان الجنرال المذبوح، حصل والملك محاط بالجنرالات والمحيطين حينما حياه جنرال آخر، الجنرال حبيبي، وكان موقفه من الغرابة بما كان، فقد كان مجتمعا متفقا مع أقطاب الانقلاب، عبابو والآخرين، وقد كلفوه بمهمة رئيس للمنطقة العسكرية بمراكش، باسم الثوار.

وقليل منهم وجد في نفسه الشجاعة ليتوجه متطلعا إلى الملك وهو يتحدث إلى بعض الوزراء، ثم إلى الجنرال محمد أوفقير، وقد ارتدى لباس الميدان وأمسك بيده رشاشة وهو يعطي أوامره لمن تبقى من المدعوين لأن يعودوا إلى منازلهم.

وعند مخرج مصطاف الصخيرات، كان ما تبقى من المدعوين يتزاحمون نحو الطريق الكبيرة وكأنهم خارجون من عالم الموت إلى عالم مجهول.. كان أغلبهم عراة، وأغلبهم حفاة، وأغلبهم ملطخين بدماء الآخرين، كانوا يتزاحمون داخل السيارات الأخرى ناسين أن لهم سيارات خصوصية، وكان فيهم من يبكي، وكان فيهم من لا يدري أهو يضحك أم يبكي، لكن عيونهم كانت جاحظة، وكانت قلوبهم لم تفارق بعد حناجرهم، ولكنهم جميعا لم يكونوا يصدقون أنهم لبيوتهم راجعون.

كانت السيارات تجري في اتجاه الرباط، تجري وكأنها البرق، لكن أي أحد من ركابها لم يكن مقتنعا بأنها تجري.. كان العائدون من مجزرة الصخيرات يحسبون أن سياراتهم معطلة، أو أنها عاجزة عن السير بسرعة، فكانت رؤوسهم تكاد تخترق الزجاج الأمامي للسيارات وكأنها تريد أن تسبق المحرك، ولم يكن أحدهم يحسب أن المسافة طويلة بهذا الشكل، ولكن أطول من تلك المسافة كان عمرهم، وأبعد من الرباط كان مصيرهم..

إن الخوف والهلع ما كان بعد قد فارق أعصابهم، فلم يكونوا راغبين في الرجوع إلى أهاليهم وذويهم بسرعة، بل كانوا هاربين خائفين، وعيونهم لم تصدق أن الأمر قد انتهى، فقد كانوا يلتفتون وراءهم كل لحظة هلعين طائرة عقولهم، ولكن تفكيرهم لم يكن يتوقف وقد أقنع أحد الوزراء نفسه بأن السيارة لا تجري بالسرعة المطلوبة رغم أنها مرسيديس جديدة، واقتنع بأنه في استطاعته أن يجري أكثر منها، وهكذا أوقفها على بعد سبع كيلومترات من الرباط ونزل يمشي على رجليه مسرعا، وعندما التقطه أحد العائدين سأله عن سر ترك السيارة، فقال بأنفة وإباء: لقد تعطلت، ولكنه بعد أسبوع من اليوم الأليم، كان حول مائدة أحد الأصدقاء يقول: لقد كنت موقنا أنهم تركوا الصخيرات ونزلوا ليحتلوا العاصمة وأنهم كانوا في انتظارنا، فلم أكن غبيا حتى أدخل بسيارة مرسيديس حكومية وسط جموع الثوار.

ولعل معاليه كان على صواب.. إن أي شيء في العاصمة لم يكن على طبيعته، فقد كانت السيارات العائدة من الصخيرات تخترق شوارع المدينة وقد غمر الجنود كل منعرجاتها، وكان الاطمئنان والخوف يتنازعان ضمائرهم، فهل هم جنود الموت جاؤوا من الصخيرات، أم هم جنود نظاميون جاؤوا لحماية المدينة؟ إنها نفس أزياء رسل الموت، بنفس خوذاتهم، ونفس أحذيتهم، حتى الأسلحة التي بين أيديهم، هي.. هي..

وتغلب الاطمئنان على الخوف.. إن هؤلاء الجنود لا يطلقون الرصاص، إنهم لا يسبون ولا يلعنون، ولكن السيارات كانت أسرع من الأفكار، والوقت لم يكن وقت حساب.

والتقت الجموع في البيوت، بين مجروح يضمد جراحه، ومغمور بدماء الآخرين يغير ثيابه، وسيدات البيوت غاضبات متسائلات: هل استدعيتهم للصخيرات لتمزحوا كالأطفال وتوسخوا ثيابكم؟

وبين لحظات وأخرى، أصبح كل العائدين من الصخيرات أبطالا وجنودا وأسودا، وقدماء محاربين.

وألقي بالأزياء الملطخة بالدماء جانبا، والسراويل المدنسة بكل أصناف النجاسة دخلت في طي الكتمان العائلي.

وتنفس العائدون الصعداء.. لقد كانوا مقتنعين بأن كل شيء انتهى، وأن الجيش سيطر على الوضع، وأنهم خليقون بأن يصبحوا أبطالا تجلل النياشين صدورهم.

كانت عيون الناس تجحظ هلعا كلما ضغطوا على زر جهاز الراديو وسمعوا بيان الثورة، وانتصار الثورة والقضاء على النظام، والمذيع يردد: لقد أطيح بالنظام الملكي.

وقتها لم يبق المدعوون إلى الصخيرات وحدهم المذهولين، ولا المتسائلين، ولكن المدعوين إلى الصخيرات لم يبقوا مذهولين ولا متسائلين، بل أصبحوا مصدرا للأخبار موثوقا به، وإنما أي نوع من أنواع الثقة.. إنهم يدعون أنهم رأوا الملك يمشي ويتكلم، ويشير بيديه، لكن.. ها هي الإذاعة بعد ساعات من رؤيتهم للملك، تقول بأنه أطيح بالنظام وأن الثورة انتصرت، فلا شك أن المدعوين من هول ما رأوا أصيبوا بمس من الخبل، ولعلهم معذورون.

وهكذا أسلم كل الناس أنفسهم للزمن يفعل بهم ما يشاء، لا هذا يصدق هذا، ولا هذا يطمئن لقول هذا، وإنما فراغ يتقاذف الأفكار، وانتظار يفرض نفسه، ماذا جرى، وماذا سيجري؟ إذاعة الرباط تخبر وتؤكد بأن الثورة قد نجحت، وإذاعة طنجة تؤكد بأن ((جلالة الملك لازال مسيطرا على النظام))، وشوارع مشحونة بالجيش، أي جيش، جيش الثوار أم الجيش النظامي؟ لا أحد يعرف، فإذاعة طنجة كانت تتحدث عن نجاة الحسن الثاني حسب الأوامر التي أعطاها لهم عامل المدينة الذي كان وقتها هو الجنرال حسني بنسليمان.

وعندما كانت فلول الظلام تطارد خيوط الشمس الذهبية في مغيبها، كانت الرباط العاصمة تستعد لأكبر عملية عسكرية في تاريخها، فإذا كانت على عهد يعقوب المنصور رباطا للجيوش السلطانية، فهي في ذلك المساء من عاشر يوليوز 1971، أمست رباطا لجيوش زائغة الزمام، وميدانا لمعركة حتمية المصير.

لقد اتفق كل الذين أفلتوا من مجزرة الصخيرات على أن الأمر يتعلق فعلا بمعجزة، لا أكثر ولا أقل، معجزة بكل مدلولاتها ومعانيها، والحقيقة أن يد القدر حولت اتجاه مجزرة الصخيرات وشاءت لها أن تقلب وضع الثوار وتفرقهم، وتضرب مخططهم بالفشل.

لقد فوجئ الجنرال المذبوح في ذلك الصباح، وهو الدماغ المفكر للمؤامرة، بمكالمة بواسطة الراديو العسكري، تطالبه بالخروج إلى الطريق العام المؤدي من الرباط إلى الصخيرات، لمقابلة الكولونيل عبابو، وقفز الجنرال المذبوح داخل سيارته كالمجنون لا يدري سر هذا الاستدعاء المستعجل، ويقول الجنود التلاميذ الذين اعتقلوا بعد فشل المؤامرة، أنهم شاهدوا الجنرال المذبوح يأتي مسرعا بسيارته وينزل ليدخل في حديث عاصف وعصبي مع الكولونيل عبابو عند مدخل مصطاف “الرمال الذهبية”، حيث تراصت الشاحنات ملأى بالرجال والرصاص على بعد بضعة أمتار من البيوت الجميلة التي بنتها الدولة لرجالها.

كان عبابو يخبر المذبوح أنه قرر أن يكون اليوم يوم الانقلاب، وأنه أتى برجاله للهجوم على الصخيرات، ولم يترك للمذبوح فرصة الكلام ولا فرصة التراجع، بل أخبره أن الشاحنات ستتبعه وستقف عند باب الصخيرات ريثما يدخل، وريثما يبعث لاستدعاء الأسرة المالكة من قصرها في الرباط ليتم في شأنها تنفيذ المخطط المتفق عليه من قبل.

ولعل المذبوح اضطر لاستحسان هذه الفكرة، ولعله وجد نفسه مرغما أمام الخطر الذي يتهدده من الجهتين إذا ما تردد في موقفه.

وعندما عاد الجنرال المذبوح إلى القصر بالصخيرات، تحولت ملامحه وتقطب جبينه.. وأخذ يرتبك، ولكنه أسرع إلى سائقه فأرداه قتيلا حتى لا يفسد عليه البرنامج، وهو الذي حضر منذ دقائق المقابلة العاصفة مع الكولونيل عبابو.

 

يتبع

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى