الرأي

الرأي | مبدأ المساواة في الدين الإسلامي

على هامش مقتل جورج فلويد في أمريكا

بقلم: ذ. عبد الواحد بن مسعود *

    تجتاح موجهة من المظاهرات والمواقف الاحتجاجية عددا من الولايات الأمريكية، على إثر استعمال الشرطة للقوة والعنف بشكل مفرط أدت إلى قتل مواطن أمريكي أسود البشرة، وندد المشاركون في تلك المظاهرات بالميز العنصري الذي لا زال يخيم على المجتمع الأمريكي ويبث التفرقة بين المواطن الأبيض والمواطن الأسود، وهكذا، فإن هذه الدولة “العظمى” التي تريد أن تكون لها قيادة دول العالم، لا زالت تتخبط في مشكل اجتماعي كبير إلى حدود القرن الذي نعيش فيه، هذا المشكل الذي استطاع الدين الإسلامي أن يستأصل جذوره منذ أزيد من أربعة عشر قرنا، وقامت الدولة الإسلامية في المدينة (يثرب)  وعلى رأسها رسول كريم ونبي من أنبياء الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، على عدة أسس تحمي المجتمع الإسلامي بساكنته دون تمييز بين أبيض وأسود، أو بين ذكر وأنثى، أو بين غني وفقير، أو قوي وضعيف، تلك الأسس كان أهمها: أن المجتمع الإسلامي مجتمع أخلاق، ومجتمع عدل وإنصاف، مجتمع مساواة، وسماحة وتسامح، وكذا مجتمع تكافل.

وبالنسبة لمبدإ المساواة، لم يكن المبدأ مجرد نداء ونظام وضعي، بل كان تشريعا سماويا له سند في الكتاب الكريم وسنة رسول الله (ص) قولا وفعلا وتقريرا.

واهتم علماء وفقهاء المسلمين ببيان وشرح مبدأ المساوة، نقتطف بعض الفقرات، ليطلع عليها دعاة المساواة ويقفون على النظرية الإسلامية بالنسبة لهذا المبدأ، حيث أن من ركائز العدل في الإسلام إقامته على المساواة، فرابطة الأخوة البشرية بدون تمييز هي الرابطة الأصل الوحيدة التي ألغى الإسلام باعتمادها فروق العرق، واللون، والجنس، واللغة، والقبيلة، والطبقة، والجنسية، والمال والنفوذ، فلا ميزة للبشر ولا تفاضل بينهم في درجات التقوى ـ نسخة طبق أصل واحد ـ فلا غنى مع إقرار مبدإ المساواة عن وجود فروق لا يترتب عليها تمايز في الحقوق والواجبات، فهناك فروق في الخلقة بين الذكر والأنثى، وفروق بين المريض والصحيح والسليم، وفروق في نتاج المدارك والعقول، وهذه الفروق وأمثالها، يمكن أن تترتب عليها أحكام شرعية تفرق بين المتساوين ووظائفهم في الحياة والدين، ولكن لا تفضل بعضهم على بعض في مجال القيم الذي يضبطه ميزان التقوى.

والإسلام دين الفطرة، فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين الناس اعتمد فيه الإسلام المساواة، وكل ما شهدت الفطرة بتمايز البشر فيه اعتمد فيه الإسلام على هذا التمايز، لكن بدون تفضيل، لأن التفضيل معاييره خلقية وروحية، وللتمايز معاييره المادية.

إن المساواة التي جاءت بها الدعوة المحمدية، مساواة مقيدة بالأحوال التي يجري فيها التساوي، وليست مطلقة في جميع الأحوال، لأن أصل خلقة الإنسان جاءت على شكل التفاوت بين الذكر والأنثى في التكوين الجسدي، وبين مكونات البشر في المواهب الفكرية الأصلية والمكتسبة، ولكن التفاضل الخلقي هو ميدان التفاوت الخاضع لمعايير الأخلاق والدين، وقد جاء في القرآن الكريم: ((أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)) (سورة السجدة الآية 18)، و((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)) (سورة الزمر الآية 9) وأيضا: ((لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا)) (سورة الحديد الآية 10).

وقد أعطى القرآن دليلا على وجود التفاوت أو عدم المساواة في هذه الآيات التي يمكن فهمها على معنيين: مادي وروحي، عندما فرق بين المؤمن والكافر، ثم أضاف: ((وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات)) (سورة فاطر الآية 19 وما يليها).

والتمايز بين الذكر والأنثى في الخلقة والجهد، يسمح بتوزيع الأدوار بينهما، ولكن لا يقر التفاضل بينهما إلا في درجات التقوى والدين والعمل الصالح وأحكام الشرع، فالنساء كما جاء في الحديث الشريف شقائق الرجال في الأحكام، كما أن التمايز في ألوان البشر الذي يلاحظ وجوده بين فصائل البشر، لا يترتب عليه تفاضل، فالنبي (ص) يقول: ((لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى))، مثله مثل التمايز بين جنس وآخر بدون تفاضل، وهو مصداق قول الرسول (ص): ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)).

وقد جاء في كتب الحديث أن أبا ذر الغفاري، وهو الصحابي الذي ينسب إليه أنه كان “اشتراكي النزعة” بتعبير العصر، سب عبدا فعيره بأنه ابن أمة، فبلغ هذا إلى علم النبي (ص) فقال له: ((أعيرته بأمه؟ فقال أبو ذر: نعم، فقال له الرسول (ص): إنك امرؤ فيك جاهلية)) فجعل النبي (ص) تعيير العبد بنسبه عودة إلى عهد الجاهلية الذي ألغاه الإسلام بإقرار المساواة واستبعاد التفاضل بين العبد والحر.

وضمن ما يحتضن مفهوم العدل من التسوية بين الناس في الأحكام، أو ما نسميه اليوم بالمساواة أمام القانون، تحقيقا للإنصاف، نسوق قصة المرأة المخزومية التي ضبطت في حياة الرسول متلبسة بسرقة حلي، فسيقت إلى مجلسه فاعترفت، فأمر الرسول بإقامة حد السرقة عليها، فلم يستسغ ذلك جماعة من صحابته، لأن بيت بني مخزوم كان يعتبر في الجاهلية بيت شرف ومجد، وتساءلوا من الذي يتقدم أمام الرسول (ص) شفيعا فيها حتى لا تنتهك حرمة بيت شريف، ولم يجدوا أفضل من الصحابي أسامة بن زيد الذي كان يتمتع بعطف كبير من الرسول إلى حد أنه أصبح يدعى “حب رسول الله” فتقدم هذا إلى الرسول بالشفاعة فيها، فغضب الرسول (ص) وقال له: ((أتشفع في حد من حدود الله؟))، ثم أضاف: ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).

هذه صورة ونظرة من نظرات فقهاء الإسلام في موضوع المساواة، وهذه هي تعاليم الإسلام وأخلاقياته القاضية بمساواة الناس أمام أحكام الشرع بدون فرق طبقي ولا مهني ولا مستوى المسؤولية، أي من آخر مواطن إلى أسرة الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.

ومبدأ المساواة الذي جاء به الدين الإسلامي منذ عدة قرون، لم تنتبه إليه الدول التي تدعي الحضارة والمدنية واحترام حقوق الإنسان إلا منذ قرن فقط من الزمن، ومع ذلك لا زالت تتعثر في تطبيقه.

* من هيئة المحامين بالرباط                      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى