الحـقــيقة الضــــائعة | هذه حكومة بن كيران “فبأي آلاء ربكما تكذبان”
كانت أصوات المتظاهرين المحتجين، تكاد تمنعنا من الكلام في مكتب الأسبوع، الذي يطل على ساحة محطة القطار في الرباط، ورجال البوليس بخوذاتهم يحيطون بحاملي لافتات الخريجين المجازين، فغادرت مكتبي من كثرة الصداع، وعند وصولي للسيارة في الشارع الخلفي، أوقفني شاب من منظمي المظاهرات، وهو بعيد عنها(…) ليقول لي: إننا سنستمر في الاحتجاج على هذا البنكيران، الذي ينكل بنا.. فقلت له: وهل بدأ التنكيل بكم في عهد بن كيران فقط، أجابني، لا.. إن هذا الوضع كان في عهد العباس الفاسي، فقلت له: ولماذا تجعلون من بن كيران المسؤول الأول، لا أكاد أفهم، إن هذا التحريك(…) مجرد تقليد، سيبقى حتى يذهب بن كيران ومن بعده، رغم أن ذهاب بن كيران، وحزب العدالة والتنمية، أشبه ما يكون برفيقه الطيب أردوغان التركي، وحزبه هو أيضا.
حزب العدالة والتنمية، الذي ظهر يومين بعد احتجاج المعطلين في الرباط، وهو يرأس تجمعا به ملايين المؤيدين للطيب أردوغان، بعد مجرد التلميح بالإطاحة به.
ورغم أن بن كيران وحزبه ليست لهم دوافع ولا مبررات “أردوغان” ولا تجربته(…) وإنما “وقعت الواقعة” 20 فبراير وانتهت حكومة العباس الفاسي، على طريقة “عبس وتولى” وإن معارضة “الأصالة والمعاصرة”، هي نفسها داخلة في سياق، “والعصر إن الإنسان لفي خُسْر”.
فإن المعارضة حتى ولو أصبحت كما كانت أيام “ذي القرنين”، تشبه “ياجوج وماجوج” في سورة الكهف، فإن التجاريب تدعو الناس أن يقولوا لهذه المعارضة “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” (ص). ورغم أن الرئيس بن كيران لا يتمتع بجمال النبي يوسف الذي عندما خرج عليهن، قطعن أيديهن “وقلن حاشا لله ما هذا بشرا” إلا أنه شكل حكومته وأدخل فيها من رجاله “سبع شداد”، فقط، رغم أن الصحافة المغربية قالت إن من بينهم من اشترى الوزارة “بثمن بخس، دراهم معدودة”، إلا أننا، وأنتم، وهم، تعرفون أن حال بن كيران، أحسن بكثير(…) من ذلك الماضي الذي رواه لنا السياسي المحجوبي أحرضان، عن حكومات أيام زمان، عندما ذكر في مذكراته، أنه حضر في زمن الملك الراحل الحسن الثاني حفلا ساهرا كبيرا حضره الوزراء في ابهى أزيائهم، وكان واحد من المدعوين، الوزير مولاي أحمد العراقي الذي جاء مزينا خصره، بحزام من الفضة، اثار استغراب الحاضرين، الذين بعد أن انقسموا بين مستغرب ومعجب، فوجئوا جميعا في الأسبوع الموالي، بأن الملك الحسن الثاني، يعين أحمد العراقي وزيرا أولا، فتسار الوزراء فيما بينهم وسموها حكومة المضمة(…).
ولكن الملك محمد السادس، ربما حقق باختيار بن كيران أمنية أخرى أكثر جدية لوالده الحسن الثاني، الذي عندما اجتمع مرة بالرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد أيام ظهور حزب “الفيس”، بزعامة توفيق مدني فنصحه الحسن الثاني بأن يعطي الحكومة للإسلاميين الجزائريين، وهكذا أشرقت حظوظ العدالة والتنمية في زمن المخزن المتأصل، وهما معا(…) الأول ورمزه المصباح “مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة”(…)، وانظروا الزجاجة في رمز حزب بن كيران. والثاني: بأساليبه التقليدية، المتأصلة جذورها في أعماق تاريخ الدولة الأصيلة، ورجالها الذين لا يدخلون برلمانا، ولا يعرفون حزبا، وإنما هي خبايا برع بن كيران في استقطابها واحترامها ووضعها على رأسه، لينسى بالدرجة الأولى التعامل بالآية الكريمة: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”(…) ويضيف السي بنكيران في مواجهته للتماسيح والعفاريت، شبه آية وإن كانت غير واردة في القرآن، قال فيها أمام البرلمان: “من لم ينفع معه القرآن يؤدبه السلطان” مناشدا بذلك، السلطان، أن يصد عنه كيد الكائدين.
وهل أعظم من السلطان المنصور الذهبي، السعدي الذي عندما ابتدع الفاسيون في عهده، أسلوبا للاحتجاج، أقوى من المظاهرات والاعتصامات، وأعلنوا ما سماه “كتاب فاس قبل الحماية”، “المعارضة الصامتة” والصمت أقوى سلاح في القديم، من سلاح الصخب والاحتجاج الحالي، فاستدعى السلطان قاضي المدينة وقال له: ((إن أهل المغرب مجانين ومارستانهم المحن بالسلاسل والأغلال)) (نزهة الحادي).
ذلك هو أصل المخزن الحقيقي، لأن إضراب الصمت كان شيئا تافها أمام إنجازات هذا السلطان العظيم.
ولم يكن لعبد الإله بن كيران، أخ اسمه هارون، ليقول للملك: “اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري” فعين محل أخيه “باها” ليشد به أزره، وليتبنى مع وزرائه السبع شداد ترديد وعوده بالقول: “سأريكم آياتي فلا تستعجلون” وما خفي كان أعظم، أرأيتم كيف أن الصحف احتجت على وزير بن كيران الخفي، عفوا، الخلفي(…) بأنه خرق القانون مرة في مراكش، عندما تدخل لفائدة صاحب كروسة في جامع الفنا.
أفلا يعرف المحتجون، أن نصير أصحاب الكراريس وهم بمئات الآلاف، هو الذي سيحصل على أصواتهم في الانتخابات القادمة؟
نرجع إلى السلطان المنصور الذهبي، الذي لم يكن في زمانه دستور ولا انتخابات، الله على راحة(…)، ولكنه كان يستثمر هو أيضا، شعبيته في صغار القوم، والمعوزين لدرجة جعلت في ذلك الزمن، القاضي عبد الواحد الحميدي يقول: ((اجتمعت بمجموعة من الموسيقيين المحتاجين، فقال له واحد منهم، السلطان المنصور أعطاني كذا، وقال الثاني: المنصور أعطاني الإبريز، فقال القاضي: لأردن أولادي كلهم إلى صنعة الموسيقى، فإن صنعة العلم كاسدة)) (الاستقصا).
سيغضب المعاصرون نسبة إلى حزب الأصالة(…) من هذا الواقع الذي حول المخزن المعاصر(…) إلى حليف لمن كانوا يوهموننا سنة 2011، بأن الإسلاميين مشاغبون ومشبوهون، أغلبهم من قدماء المحكوم عليهم، فأصبحوا يشكلون الحكومة الملتحية(…)، ويخدمون الشرعية بأصدق وأوفى، مما كان يتوقعها هذا المخزن الشريف، الذين كان أولئك المقربون وهم يسيطرون على القرار، يوهموننا أنهم حماة النظام وحلفاؤه، ولا ننسى أنهم عندما اختاروا نخبة من التقدميين(…) المتعاملين معهم(…) لتعديل الدستور، فكتبوا فيه لإرضاء الملك، فصولا تعطي الملك في بعضها(…) سلطات كبرى، وفي بعضها الآخر، يعطون سلطات أكبر لرئيس الحكومة، لأنهم كانوا شبه متأكدين، بأن الحكومة ستؤول إلى تجمعهم الثماني(…) فكانت تلك السلطات التنفيذية من نصيب الحكومة الملتحية، فاكتفوا بأن “أسروا الندامة، لما رأوا العذاب” وها هو يتعذبون فيما بينهم وما بين حلفائهم، الذين من سوء حظهم أنهم ضعفاء، تافهين متناقضين، خصوصا بعد أن التحق بهذه الحكومة جزء كبير من حلفائهم، كما التحق بهذه الحكومة، أغلب رجال الدولة وأثرياؤها، وها هم أقطاب التجارة والمال، وأقطاب “الضحى والليل إذا سجى”، يتعاملون مع الحكومة الملتحية التي دخلت الحكومة كما قالوا تحت ضغط الربيع العربي، فإذا بها تشكل حكومتها الثانية بدون عشرين فبراير ولا هم يحزنون(…) في صيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، أزمة مفروضة على المغرب بحكم التسيير السابق(…) والتخطيط المغلوط (…) الذي رسمته عشرات الحكومات السابقة، أزمة أصبحنا نرى فيها آلاف العاطلين الفرنسيين والإسبان، يتهافتون على المغرب الذي يجدون فيه فرص عمل، لا يراها لسوء الحظ ولا يجدها، مئات العاطلين من المغاربة الذين من سوء حظهم أنهم يعانون من اليأس وانعدام المبادرة حتى أصبحنا نرى اصحاب المصانع الصغرى يشكرون الله على أنهم وجدوا في المهاجرين الأفارقة، من يعوضهم على فشوش(…) المساعدين المغاربة الذين كانوا يذيقونهم المرائر، ويعرضون منشآتهم الصناعية الصغرى للإفلاس.
وليس اليأس هو وحده الذي يعمي الأبصار، وإنما أخطر أنواع اليأس، هو ذلك الذي دفع أقطاب الفكر اليساري من منظري فلسفة حزب الأصالة والمعاصرة، يعلنون انسحابهم من هذا الحزب، الذي فقد بفقدانهم عموده الفقري (انظر الحقيقة الضائعة “نهاية الحزب الذهبي” عدد الأسبوع 10 أكتوبر 2013)، ومن يدري، ربما كانت تلك استجابة لدعوات الليل والنهار، التي يطلقها أصحاب الحكومة الملتحية، في أضرحة القطب مولاي إدريس، ومولاي عبد السلام بن مشيش، وعلى أبواب أضرحة سبعة رجال، أليس الله جل وعلى، هو الذي قال: “ادعوني أستجب لكم”.
حقا، إن القضية ليست عندنا كما هو مفروض في المبادئ الديمقراطية، مبنية على هياكل الأحزاب القوية كحزب العمال وحزب المحافظين في المملكة البريطانية، وفي الهند وفي الباكستان، ولكن انظروا إلى أحزابنا وقد كادت تتحول إلى هياكل كهيكل النبي سليمان الذي بقي على عرشه جامدا سنين طويلة، حتى جاءت نملة جعلته بحركتها رميما، كما جاء في سورة سبأ، مع الفرق الشاسع بين أحزابنا(…) وهيكل سليمان، هذه الأحزاب التي نراها تندثر وتتحول إلى رميم دون الحاجة إلى نملة، ولا تراكتور.