الرأي

الرأي | وأخيرا.. سقطت الأقنعة

بقلم : محمد أوزين

    “عندما يسقط القناع، يظهر الوجه الحقيقي”.. قول مأثور عند الفرنسيين:

“les gens ne changent pas ils se révèlent” (الأفراد لا يتغيرون، وإنما تنكشف حقيقتهم)، وكما الفرنسيين، اشتهر قول عند العرب “كم من وجوه أَقنعة، وعيون خادعة”، ولنا في طفولتنا، نحن جيل الأَنْمِيَاتُ اليابانية الشهيرة “غريندايزر” و”النمر المقنع”، حكايات ممتعة، ونحن نتابع بشغف كبير فصول الصراع بين الخير والشر، بين الطيب والخبيث، فكان البطل شخصية مقنعة تصارع التسلط والظلم وتناصر الحلم والعدل، لكنها تظل متوارية عن الأنظار لحكمة رصدتها عينها، في سياق فسد فيه الناس، وضاع الزمان، فلا أمان.. لكن وعند اقتراب النهاية، يسقط القناع، ليظهر وجه البطل في سيناريو مشوق ومحبوك.

اليوم، نعاين القناع نفسه، لكن بسيناريو معكوس، وأقل تشويقا.. كيف؟ تفشي الوباء أماط اللثام عن يوطوبيا الغرب، منذرا بآخر حلقات نهاية الحلم الأوروبي رغم امتداد الاتحاد، حيث بدأت الشكوك، وهي ليست وليدة اليوم، تحوم أكثر حول مستقبل المشروع الاندماجي للقارة العجوز التي تصدرت العالم استنادا إلى نسقها القيمي الذي مكنها من ريادة الكون لقرون عديدة.

وإذا كان المفكر الأمريكي جيريمي ريفكين، وهو مهندس خطة الاتحاد الأوروبي لمواجهة الأزمات، قد تعرض في كتابه “الحلم الأوروبي” إلى “التفوق الهادئ” للحلم الأوروبي على نظيره الأمريكي في مقارنة بينهما، فإن الرد جاء صاعقا من خلال مؤلف “أوروبا الوهمية”( (L’Europe Fantôme للكاتب الفرنسي المتمرد ريجيس ديبري الذي لم يترك هامشا للشك حول إفلاس المشروع الاندماجي لأوروبا، ولعل أهم ما ركز عليه ديبري هو تفكك القيم الروحية والفكرية التي كانت أساس إشعاع أوروبا وتملكها للعالم.

عند بداية تفشي الوباء، ظهر ارتباك، يوشك على التناقض أحيانا، في تصريحات المنظمة العالمية للصحة، فخرجت بتطمينات ونصائح حول الأقنعة، موصية بضرورة ارتداء المصابين لها والأطقم الطبية فقط، لتخرج فيما بعد، دول كثيرة توصي، عكس المنظمة، كل مواطنيها، بضرورة وضع الأقنعة الطبية عند الخروج من المنزل، لتعود المنظمة متداركة، عكس توصيتها الأولى، وتحث الجميع على ارتداء القناع، وتعلن بذلك صافرة حرب لم تتنبأ بها حتى أبدع سيناريوهات الأفلام المستقبلية، وهي حرب الأقنعة، انهارت معها قيم التغني بالإنسانية، وأنشودة التضامن، وشعار التكامل، وقواعد السوق وأعراف التبادل التجاري.

إيطاليا الجريحة تقف مشدوهة أمام جمهورية التشيك وهي تستحوذ على حمولة أقنعة طبية قادمة من الصين، ليست إلا مجرد هبة من الجمهورية الشعبية إلى السلطات الإيطالية.

أوكرانيا تتهم روسيا. ألمانيا وكندا وفرنسا تتهم الولايات المتحدة، وهذه الأخيرة تنفي وتفند، لتعود وتمنع أكبر شركاتها من تصدير معدات وأجهزة التنفس الطبيعي إلى كندا ودول أمريكا اللاتينية، متنكرة لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية المعدلة (NAFTA)، التي شكلت موضوع مفاوضات لمدة ثلاث سنوات.

جوستان ترودو، رئيس وزراء كندا، الذي أغلق حدود بلاده أمام العالم إلا على الجارة الأمريكية، يعدل عن قراره، ويخرج بإدانة لقرار إدارة ترامب ويذكرها، إن كانت الذاكرة لا تسعفها، أنها ما زالت تستورد معدات طبية هامة من كندا.

الرئيس المدير العام لأكبر شركة للمعدات الطبية بأمريكا، يقر بالتعليمات الصارمة للإدارة الأمريكية بعدم بيع المعدات الطبية خارج التراب الأمريكي، ويعترف بـ”التداعيات الإنسانية الكبيرة” لمثل هذه القرارات.

طبيبان من أهم متخصصي علم الأوبئة في فرنسا، وعلى الهواء، يتباحثان إمكانية تحويل الأفارقة إلى فئران تجارب (des cobayes) للتأكد من فعالية لقاح محتمل، ليعود أحدهما ويقدم اعتذارا، ولو أن الاعتذار يجب أن يقدمه أيضا من طرح السؤال المستفز، كما اعترف بذلك، وكما كان يظهر في حركاته القلقة والشرود المتكرر لمقلتيه.

وُصفت الدبلوماسية من طرف كثير من المختصين بأنها تعاون وتآزر لجني مكاسب سياسية واقتصادية بين البلدان.. فهل لهذا التعريف ما يبرره اليوم، لا سيما وأننا أصبحنا، كما نعت ذلك أحد المحللين، أمام “دبلوماسية الأقنعة”، وحقيقة الأمر أننا أمام أَقنعة الدبلوماسية؟

سقطت ورقة التوت سهوا، في ظل الجائحة، عن المنظومة الليبرالية المعولمة في شقيها الإنساني والاجتماعي، لتتضح للعيان حقيقتها الصارخة، فهل سترتدي قناعا جديدا بعدما أسقط الوباء القناع الحقيقي؟

ذكر المؤرخ الأمريكي جون بالدوين، الذي عاش طويلا في فرنسا، ما يشبه ما نعيشه اليوم، قائلا: “نخاف أن لا نحيا بدون أقنعة، ونعلم أننا لن نحيا بداخلها”.

أكيد سنواجه الكثير من الأقنعة والقليل من الوجوه، كما قال الروائي الإيطالي لويجي بيرانديللو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى