المحامون في يوم غاضب
بقلم. محمد بركوش
وقفة ليست ككل الوقفات المتعود عليها والمألوفة في ذلك المكان الذي حولوا قبلة العدالة عنه، وقفة التجأ إليها مئات المحامين بعد كل اللطف كما قيل، وكل المدارات التي استحسنت في فترة سابقة، كان لابد أن تتغير لغة المهادنة بلغة أخرى مبلولة بالحدة والصرامة.. أن تصير لرجال الدفاع ونسائه قلعة وأسلحة كما قال أزغاي عزيز للذود عن حياضهم.. عن مجد صاحب بثقل التاريخ وقوة النضال والصمود. تاريخ يعيد نفسه، ينفث روحه الجديدة بفضل محامين شباب غمرتهم أو تغمرهم بالأحرى الرغبة في هدم الجدار القديم، وإقامة آخر أكثر سمكا وأكثر مناعة.
لقد اصطف المحامون بانتظام بعد أن وقفوا بأنفسهم على الحد المسنن للخطر المحدق باستقلالية المهنة النبيلة، اصطفوا يرددون شعارات قوية بلون تتوحد فيه كل الألوان، أعادتنا إلى الماضي الذي يزخر بالبطولات والمرافعات القيمة، حيث ذكرتنا بشريط طويل أنهكته الأعطاب والمواجهات وتخاذل البعض، ومع ذلك مازال قابلا لاقتباس الدروس والعبر، شريط بذكريات جمة يمكن أن تستحم فيها كشاطئ لا ينتهي دون أن تتعب أو تمل من الحكي كما قال مصطفى خلال، كانت الميكروفونات الطبيعية تزرع المكان الفسيح المطوق برجال يحبون المحامي ويقدرون عمله الشاق «ولكن الله غالب»، قلت تزرع بجليل الأصوات قوة إضافية، تكشف لمن لا يزال في حاجة إلى استكشاف عن جدوى الامتناع وحقيقة الرفض المعبر عنه من طرف الجميع، والذي اختصره رئيس جمعية المحامين بالمغرب الأستاذ حسن وهبي في كلمة جامعة مانعة، ذلك الرفض الذي ليس اعتراضا مجانيا كما قال وزير العدل والحريات «ابن الدار» على الإصلاح في حد ذاته، وليس عرقلة لخطوات تسير بأصحابها في قبو بلا إنارة، وليس إغلاقا لأبواب لا وجود لها في مهنة المحاماة المعادية للتقوقع والانكماش وصد النوافذ.
لقد رسمت الوقفة الاحتجاجية الصاخبة كما وصفها الأستاذ حسن وهبي، والتي نظمت في يوم غاضب لوحة ليست سوداء كما نقلت بعض الصحف الوطنية، بل هي لوحة بكل الأصباغ المتفائلة والمعبرة عن التضامن والحوار الذي خبرناه وخبره السابقون عبر ساحة زمانية لن تطوى مهما استقووا بالأبصار والكلام غير المفيد، والمكرسة للمبادئ الكبرى التي ناشدها الأولون وصحوا من أجلها بل ودخلوا السجون بسببها، والتي هي الاستقلالية والحرية والكرامة، إضافة إلى الحصانة التي لم يعد أحد يذكرها. لوحة رائعة بكل الأشكال، تعمد أصحاب البذل السوداء إبقاءها دون اكتمال، في انتظار طبعا ما سيأتي من تصعيد، من قبل كل المحامين الذين نسوا ميولاتهم السياسية وتخلوا عن أقمصتهم الحزبية، وذابوا في رياض مهنة يرفضون الوصاية عليها، ويمانعون في ضربها بأيادي خفية في الصميم، على اعتبار أنها المهنة الوحيدة التي لا يزال أبناؤها يتكلمون ويعارضون ويرفضون وجودهم بالقانون أمام كل التجاوزات والخروقات، وكل مساس بالحقوق والحريات من طرف مؤهلين من قبل المخزن للتضييق «والزَّمْت» من أجل التخويف والتركيع وفرض الأمر الواقع.
إن بعض «المبرزطين» ممن لهم مصلحة فاسدة ومسترسلة يحاولون أن يشوشوا على نجاح الوقفة التي جاءت كرد فعل عن صم الآذان ودخول بعض المسؤولين في نفق الصمت، وذلك باختزال مطالب رجال الكلمة في المساعدة القضائية، رغم أن أمر هذه الأخيرة إنما ورد في سياق معين ومحدد، وضمن مجموعة من المطالب المعترف بها كونيا؛ مطالب مشروعة لكونها تنطلق من مبادئ كبرى يقدسها محامو العالم بدون استثناء، ويعملون على ترسيخها والحفاظ على بقائها لضمان استمرار المهنة في أبهى ما يكون الاستمرار، لا كما يريده أولئك الذين يحملون العصا بيد والكفن بيد أخرى، قلت يحاولون أن يطمسوا معالم أسئلة أعظم وأكبر، بشساعة الحرية غير المشروطة إلا باحترام حرية الآخر، ورمزية الاستقلالية المجردة والتي لا تقبل بأي تدخل، ولو كان بسبب أتعاب المساعدة القضائية، وجدوى الضمانات التي تساهم في خلق أجواء غير قابلة للقمع أو المنع من الاسترسال في الفضح وإظهار الحقائق، زيادة، طبعا على الكرامة، الرأسمال الأهم بالنسبة لكل محامٍ شريف، يصبو إلى تثبيت الذات إلى جانب النزهاء والشرفاء وباقي الفئات التي لا تعرف مسار التلوث والفساد، وهذه كلها أشياء سنعترف جميعا كما اعترف الشاعر الألماني رايز ماريار بيلكه بأننا «سنموت إذا فقدناها أو ضاعت من بين أيدينا».
في الختام؛ أود أن أوضح بأن ميثاق الإصلاح حمل توصيات وإجراءات وصفها البعض بأنها تنظيمية ومن شأن تفعيلها الحد من السلبيات التي تعاني منها المهنة، وأكيد أن القول صحيح «رغم خلوها من بصمات مهنية» لو أن ذلك صادر بشكل تشاركي وبإجماع كل الفاعلين الذين لهم عمق وصلة ما بمشاكل المهنة، وليس عن طريق الإملاءات كما قال أحدهم والتعليمات المقامة على الإقصاء وتهميش المعنيين بأمر قطاع حيوي في العالم كله، يؤشر على العدالة ويؤسس للملك الحقيقي.