الـــــــــــرأي | “المشرملون” الكبار
بقلم. محمد بركوش
التشرميل ظاهرة، أو ظواهر متشابكة فيما بينها (العنف- التحدي- الأسلحة- القرقوبي-العصيان الطفولي…)، ظاهرة ليست سيبة عشوائية، أو سيبة منظمة (كما قال عبد الله الدامون في جريدة المساء، العدد: 2347)، “يقودها منحرفون بأسلحة بيضاء، يهاجمون أي شيء يتحرك والسبب لا شيء تقريبا“، هي ظاهرة مركبة ومعقدة أخذت طابعها الجديد بعد أن اتسع نطاق تغطيتها عبر وسائل التواصل المتطورة: طابعا مقلقا كما قيل إلى درجة أن الناس فوجئوا بها وكان البلاد لم تكن تعج قبل ظهورها بالإجرام والحوادث المفجعة التي كانت تحتاج المدن والقرى المغربية سواء بسواء، وإن بدرجة أخف مما تعاني منه بلدان مماثلة، قلت الظاهرة لم تكن حديثة العهد كما يعتقد البعض أو وليد اليوم (التسمية توحي بقدهما)، بل إن استعمالها والترويج لها بالصورة والحرف هو الذي أفرج عن الاستغراب وأثار الدهشة، وإن كان البعض يرى في انتشارها بشكل سريع في أوساط الشباب هو ترجمة لمواقف الغضب (وصلت دورتها مؤخرا)، يهدف أصحابها إلى لفت الانتباه لأوضاعهم ومشاكلهم المستعصية والمتولدة عن سياسات فاشلة، عوض تركهم للضياع والتهميش، وذلك في تحد ملموس للقوانين والضوابط وكل ما من شأنه أن يرمي إلى التضييق والقمع خارج سياسة ملتزمة وقادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الدولة قرأت الرسالة بدقة، أو بالأحرى أعادت قراءتها بعد التوجيهات العليا “للتصدي للإجرام وحفظ أمن المواطنين“، وتفهمت الإشارة القوية التي نقلتها صور لأبطال افتراضيين كما قال أحد الأساتذة من ذوي الاختصاص، يتحكم فيهم حب الظهور والإفصاح عن الذات، فأعلنت (أي دولة) عن موقفها، وهو موقف غير مشابه لمواقف كان المسؤولون يلجأون إليها في الماضي، تضع المواطن بين خيارين: “حفظ حق المجرمين في ترويج المواطنين، أو التزام الصمت وغض الطرق من أجل الحفاظ على أمنهم الهش” وأخذت تتحرك على مستوى الداخلية في كل ربوع المملكة لحث المسؤولين الأمنيين ورجال السلطة على ضبط الإيقاع على ساعة أمنية معينة عن طريق وضع استراتيجية ملائمة تأخذ بعين الاعتبار حقوق المواطن وهيبة الدولة، في انتظار أن تأتي دراسة الظاهرة على الأسباب والدوافع وتفصح عن الوصفات الكفيلة بالعلاج الجذري.
الدولة كما قلت أدركت أنها إذا لم تحقق استقرارا نفسيا وأمنا شموليا لا يمكن لها أن تسود، وتكسب احترام المواطن وتقديره، هذا الأخير أي المواطن الذي يعي بأن “المشرملين” الذين لا ينتبه إليهم كثيرون جدا كما قال عبد الإله الدامون، فما “معنى أن يقبض مسؤول كبير عملة بعشرات الملايير في نصف يوم، وما معنى أن يقبض عمدة مدينة أكثر من مليارين في يوم واحد مقابل توقيعه على رخص غير قانونية للبناء، وما معنى أن يهرب المسؤولون الكبار ثروات البلاد إلى الخارج ويتركون الشعب يتصارع مع الفتات، وما معنى أن تتحول الانتخابات إلى مهرجانات للتشرميل بكل أنواعه”، وما معنى أن يستمر الكبار في شنق ممتلكات الدولة وبيعها ببلاش، واستخدام سيارات المصلحة في نقل “المدام” والحشم إلى الحمام، رغم حاجة القبيلة إلى سيارة إسعاف تنقذ حياة جنين يتصارع من أجل الخروج إلى النور، لذلك عمدت الدولة إلى الإسراع بتطويق الظاهرة قبل استفحالها خاصة وأن وسائل الاتصال لم تكف عن الإخبار المتوالي عن تفاقمها وتحطيمها كل الأرقام، ورخصت باستعمال الوسائل الكفيلة بالحد منها، وهي الوسائل المتعارف عليها في كل الدول التي تسعى إلى الحفاظ على الاستقرار، وتضع راحة المواطن ضمن الأولويات، دون تجاوز الحقوق والمس بالكرامة واستغلال الحملات العشوائية غير المتحكم فيها، والتي تأتي بنتائج سلبية كما كان يقع في الماضي القريب، رغم أن الكثيرين اليوم يتذكرون هذا الأخير (أي الأمس القريب) ويستطيبون عودته بكل السلبيات والتجاوزات مقابل العيش خارج دائرة الذعر والارتباك الأمني إن صح التعبير.
وزارة الداخلية بدأت تضع كل الاحتمالات والافتراضات المقروءة، وغير المقروءة، وترسم الخطط الفعالة (بمشاركة كل العاملين في القطاع)، التي ستساعد على كسب “الدوري” كما قيل، وتفعل كل المبادرات الجادة التي من شأنها إن توفر تحكما وسيطرة، من ذلك جمع شتات رجال الأمن والتحكم بشكل عقلاني في انتشارهم، بعد أن يتأكد بالملموس وبالمشاهدة بأن عددا لا يستهان به يتولى مهاما بسيطة لا تحتاج إلى زي ومسدس، أو غير داخلة في عمل الشرطي، من ذلك مثلا وقوف رجل أمن بقامته السمراء وزيه الرسمي الذي يحيل على الوقار ويحمل على الاحترام: وقوفه بباب إحدى المحاكم بمراكش فقط ليقوم بفتح الباب إلى مسؤولية قضائية، وإغلاقه عندما تنتهي من ركن سيارتها ذات الحرف الأحمر رغم أن مسؤولين كبار في منزلة الرئيس الأول والوكيل العام ينفرون من تلك التصرفات ويباعدونها، حيث يكتفون بإيقاف سياراتهم في أماكنها الخاصة دونما حاجة إلى “مخزني أو شرطي”، وفي ذلك تجسيد لمفهوم المسؤولين الحقة، وترجمة للعفة واحترام المواطن والتحلي بالنبل الإداري إن صح التعبير، وأكيد أنني لست في حاجة إلى القول بأن إحصاء تلك الحالات وحصرها (للقضاء عليها) من شأنه توفير موارد بشرية مهمة ستعمل على سد الخصاص المهول الذي يعاني منه القطاع الأمني، وهو خصاص ناتج عن النمو الديمغرافي والتوسع العمراني وارتفاع مؤشر الجريمة بسبب الفقر والبطالة وقلة الشغل، وتسعى إلى “إزالة الهاجس الأمني وإرجاع الثقة إلى المواطن، على اعتبار أن الأمن يعد المطلب الأول والأساسي قبل مطلب التشغيل كما قال وزير الداخلية في اللقاء الذي احتضنته الخميس الماضي مدينة مكناس.