تحقيقات أسبوعية

لماذا لم يحضر الأستاذ محمد عبد النباوي إلى البرلمان؟

بقلم: رمزي صوفيا

عندما نتحدث عن الأستاذ محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، فإننا نستحضر نموذجا واضحا لإطار عال يحترم مسؤولياته ويحرص على منح القدوة لكل معاونيه، لجعل كلمة عدالة، جسرا قويا نحو منح الحق لذوي الحق وإزهاق الباطل كيفما كان نوعه، وعندما نتمعن في طريقة اشتغاله، وكيف نجح على مدى مساره المهني المشرق، في ترجمة معاني النزاهة على أرض الواقع، فإننا نجد تفسيرا واحدا لذلك، هو تطبيقه للقوانين وسعيه المتواصل ليس فقط لتقريب الحقوق من ذويها، بل لجعلها بين أيديهم.
وعندما رفض الأستاذ عبد النباوي الحضور إلى البرلمان لتقديم تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2018، فإن كل من يعرفه عن كثب ويعرف مدى احترامه لواجباته ومسؤولياته ويعرف كفاءته الكبيرة وثقافته العالية، سيدرك بدون ذرة شك لماذا اتخذ هذا الموقف، وأنه لم يتزحزح عن روح القانون قيد أنملة، بل إنه عمل من خلال ذلك على تذكير الجميع بأن القضاء هو سلطة مكتملة الأوصال، وأن تعيينه في منصب رئيس للنيابة العامة كان الدعامة التي اكتمل بها التطبيق الدقيق والحقيقي لمبدإ فصل السلط.
لهذا، فإن مسؤولا كبيرا شامل الاطلاع القانوني وشخصية نزيهة مثل الدكتور محمد عبد النباوي، لا يمكن أن يختار موقفا صارما إلا على مرتكز واحد ووحيد، هو تطبيق القانون بحذافيره وتنفيذ مقتضيات منصبه، وتذكير الجميع بأن السلطة القضائية هي سلطة قائمة بذاتها ويستحيل أن تلزمها السلطة التشريعية بتنفيذ أي أمر وإلا سيحدث خرق سافر لأسمى قانون في المملكة المغربية، ألا وهو الدستور.
لهذا، لم ولن يتردد مسؤول يعمل بكل نزاهة وبكل كفاءة وبكل مواطنة في تذكير من يجب عليه أن يتذكر، بأن الدستور قد أفتى بفضل السلطة القضائية على السلطة التشريعية حتى يتسنى للقضاء أن يعمل بعيدا عن أي تأثيرات، وأن يمنح للمواطنين ثقة لا مشروطة ولا محدودة بأن السلطة التي تسهر على استتباب الحق ومنحه لمستحقيه تعمل بكل استقلالية وتطبق القوانين حتى في مجال علاقاتها مع بقية السلط، وأول تلك القوانين هي الفصل بينها وبين السلط الأخرى التي هي التشريعية والتنفيذية، وكما أن الحكومة لا يمكن أن تسمح للقضاء بإصدار أي أمر مهني في حقها، فإن العدل يبقى بعيدا عن استقبال أية أوامر مهنية من أي سلطة أخرى.
وبالرجوع لسنوات مرت متمعنين في مسار هذا المسؤول الكبير، وكيف تمكن من الحظوة بالثقة الملكية للوصول إلى منصب أعلى سلطة قضائية مستقلة في المغرب وحمل حقيبة محكمة النقض بكل ثقلها وحساسية ملفاتها وبكل الأهمية التي يكتسيها قطاع العدل في المغرب تحت قيادة ملك اختار التطبيق الحقيقي والدقيق لمبدأ “العدل أساس المُلك”، فإننا سنقف عدة مرات أمام تفاصيل تكشف عن رجل من طينة نادرة في مجال الثقافة والطموحات المبنية فوق شخصية تحب وطنها وتخلص له بأنظف معاني الإخلاص، وتسعى للمساهمة في تعزيز دعائم السياسة الملكية التي أكد فيها جلالة الملك محمد السادس نصره الله دائما على أن الحق حق ويجب أن نراه حقا ونوليه مكانته العليا، وأن الباطل باطل ويجب أن يعمل الجميع على دحره بعد اكتمال ركائز دولة الحق والقانون بتنزيل كافة فصول دستور سنة 2011، الذي ارتضاه ملك الديمقراطية الحداثية لشعبه وارتضاه الشعب لنفسه بنفسه، وهو الدستور الذي أقر بفصل لا رجعة فيه بأن السلطات المكلفة بتدبير وتسيير شؤون البلاد هي منفصلة عن بعضها البعض، وأن لكل سلطة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) اختصاصاتها القمينة بجعلها تعمل بكل استقلالية بعيدا عن تلقي أية أوامر أو تعليمات من السلطة الأخرى.
والأستاذ محمد عبد النباوي، باعتباره ضليعا لا يشق له غبار في القانون وخبيرا مبرزا في العدل ورجل ثقة عن جدارة واستحقاق بفضل مساره المهني النظيف المليء بمحطات التميز، لا يمكنه أن يقبل أو يتقبل أي خرق لمبدإ فصل السلط وهو الذي يعمل ليل نهار على تطبيقه بأدق حذافيره.
والحديث عن الأستاذ عبد النباوي لا يمكن أن يكتمل دون أن نذكر ونذكر بمساره الدراسي المشرق الذي واكبه حب عميق للكتابة والتأليف بحثا عن تعميم الفائدة وجعل ما حباه الله به من سعة اطلاع ومن رصيد ثقافي كبير في متناول الباحثين عن الثقافة والعلم، فبعد أن حصل الأستاذ محمد عبد النباوي على شهادة الإجازة في الحقوق في سنة 1978، لم يكتف بذلك، بل قرر وبكل شغف للمزيد من العلم والاطلاع، أن يواصل مساره التعليمي محلقا في آفاق القانون بكل تشعباته، ليحصل على دبلوم الدراسات المعمقة في القانون سنة 1999، ثم واصل بحثه ودراساته ليحصل على شهادة الدكتوراه في القانون عام 2015 في موضوع حساس ودقيق جعل عنوان أطروحته هو “تسليم المجرمين بين القانون الداخلي المغربي والاتفاقيات الدولية”.
كل هذا بالموازاة مع قيامه بكل واجباته المهنية كرجل قضاء اشتهر بنزاهته وشغفه بتمحيص دقائق الملفات المعروضة على أنظاره، لوضع حق المتقاضين في مكانته العليا التي تنسجم مع مبادئ هذا المسؤول الخلوق مع عمله، حيث بدأ مساره في سلك القضاء في سنة 1979 في منصب قاضي ونائب في عدة مناطق (طنطان، العيون، الداخلة وأزيلال)، وفي سنة 1984، تقلد منصب وكيل للملك في الحاضرة الجنوبية المغربية، مدينة العيون، ثم التحق بعد ذلك في نفس المنصب بابن سليمان والمحمدية، وفي سنة 1997، تم تعيينه على رأس قسم بمديرية الشؤون الجنائية والعفو بوزارة العدل، ليتولى في سنة 2000 منصب وكيل للملك بالدار البيضاء، ثم تقلد منصب مستشار بوزارة العدل، وبعدها تولى منصب مدير لإدارة السجون وإعادة الإدماج، ثم مدير للشؤون الجنائية.
مسار مشرق بسمعة طيبة جعلت كل من تعاملوا مع الأستاذ عبد النباوي وكل من عملوا معه عن كثب، يشهدون له بالحرص الشديد على تطبيق القانون وإحقاق الحق وجعله حقا لصاحبه وليس عطاء، وتمسكه بمبادئ النزاهة والشفافية والرغبة في جعل مجال القضاء مجال ثقة متبادلة بين رجاله ونسائه وبين من يحجون إلى محاكمه ومكاتبه باحثين عن حقوقهم، وكان هذا المسار النموذجي سببا أساسيا إلى جانب أخلاقه الطيبة ووطنيته الحقة في حظوته بالثقة الملكية وتنصيب جلالة الملك له وكيلا عاما للملك لمحكمة النقض.
ورغم مسؤولياته الكبيرة التي يحملها ويزاولها بكل مصداقية، فإن الأستاذ محمد عبد النباوي لم يتخلف عن موعده الكبير مع الأدب والتأليف، بإصداره لعصارة تجربته بأسلوب أدبي كشف من خلاله عن رصيد لغوي وفكري وأدبي كبير مانحا للخزانة الأدبية مؤلفات من طينة كتابه “تسليم المجرمين بين القانون الداخلي المغربي والاتفاقيات الدولية”.
بعد كل ما ذكرت عن هذا المسؤول من خلال النزر القليل الذي عرفته عنه وعن درجة حبه لوطنه، فإنني سأكتفي بختم هذا المقال بعبارة واحدة هي “الأستاذ محمد عبد النباوي هو الرجل المناسب في المكان المناسب” لتجديد الثقة في العدل والقضاء وتنزيل التعليمات الملكية في مجال محاربة كل أشكال الظلم والعنف، وهنا نستحضر ما قاله في ورشة عمل حول “قانون محاربة العنف ضد النساء في المغرب”، نظمتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان ورئاسة النيابة العامة، أن (رئاسة النيابة العامة وضعت السياسة الجنائية المتعلقة بمحاربة العنف ضد النساء ضمن أولوياتها))، مؤكدا بأن ((النيابة العامة حريصة على توفير كل الظروف للقضاء على العنف ضد النساء)).
ولم يكن موضوع العنف ضد النساء هو الملف الوحيد الذي انكبت النيابة العامة على معالجته بكل صرامة وسرعة، بل إن كافة القضايا الاجتماعية التي كانت مثار جدل كبير في كل الأوساط الاجتماعية المغربية، وجدت الآذان الصاغية لدى الأستاذ محمد عبد النباوي، ومن أهمها قضايا الرشوة والفساد الإداري، حيث قال الأستاذ محمد عبد النباوي في هذا الصدد: ((إن الخط المباشر الذي وضعته النيابة العامة للتبليغ عن الفساد المالي والرشوة، يسقط حالة تلقي رشوة في معدل يومين))، مؤكدا بأن هذا الخط الذي يعتبر امتدادا لسياسة الدولة في محاربة الفساد المالي والرشوة أثبت أن المواطن المغربي أصبح اليوم يتعامل مع المؤسسات ويثق فيها، ويتعاون معها من خلال الاتصال بهذا الخط والتبليغ عن حالات الفساد والرشوة، كل هذا، إضافة لانخراطه في التواصل الدولي، بقيامه بعدة رحلات نحو عدة بلدان شقيقة وصديقة للتنسيق والتعاون بين المغرب وبين هذه الدول في مجال القضاء ومكافحة كل أشكال الجريمة والإرهاب، مما يؤكد على صيرورة جديدة في مجال القضاء والعدل جسد فيها الأستاذ عبد النباوي دينامية حافلة بعناصر قضاء نزيه وشفاف شعاره إحقاق الحق ودحض الباطل.
إن الأستاذ محمد عبد النباوي وهو يتخذ الموقف الذي بدأت به هذا المقال، قد أعطى ولازال يعطي القدوة لمن يبحث عن حقيقة معاني استقلالية القضاء ونزاهته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى