عبد اللطيف السملالي رحل قبل الأوان

بقلم رمزي صوفيا
يعتبر هذا الرجل من أرقى الشخصيات المثالية التي عرفتها في عالم صناع القرار بدواليب الحياة السياسية في المغرب.
وقد كان الكبير والصغير يتحدث عنه ويثني على مزاياه كرجل شعبي في قمة الوفاء لرفاقه ولمبادئه. وفي تجربته في الاتحاد الدستوري، كان السملالي يرغب في أن يكون الرجل الثاني بعد المعطي بوعبيد، وكان مهتما أكثر بالجانب التنظيمي، خصوصا في اتجاه تأسيس منظمات موازية في الشباب والمرأة. وقد عرفت عنه صرامته في اتخاذ القرارات، إذ كان على عكس الرئيس بوعبيد يميل إلى الحسم بسرعة، مهما تكن النتيجة، وكان يعتبر نفسه المحاور الأساسي للسلطة، إذ استمر في إدارة شؤون الحزب وقطاع الشبيبة والرياضة، على حد سواء، بعد مجيء الوزير الأول محمد كريم العمراني.
الذين عايشوا عبد اللطيف السملالي في تجربته الحزبية والسياسية يؤكدون أنه كان ذا توجه توافقي، وحين كان يُغلق باب الحوار بين المعطي بوعبيد والديوان الملكي، كان السملالي يتدخل للإبقاء على جسور الحوار في القضايا التي تكون محل خلاف، ولو أنها لم تتجاوز إشكاليات في تأمين حضور الاتحاد الدستوري في الترتيبات الحكومية اللاحقة. كذلك حين كانت تنقطع حبال الود بين بوعبيد والبصري، كان يسارع إلى الدخول بـ«خيط أبيض» لحل المشاكل العالقة، فقد كان أكثر واقعية، ويقيس الأشياء بخلفياتها ومبرراتها السياسية.
وحين اندلعت يوما عاصفة ضد المعطي بوعبيد، لم يجد السملالي أي حرج في أن يقسم لرفيقه، على كتاب الله، أنه سيظل مخلصا ووفيا لقيادته. غير أنه بعد غياب بوعبيد، سارع الاتحاد الدستوري إلى اختيار مبدإ القيادة الجماعية، التي آلت في نهاية المطاف إلى المحامي السملالي فكانت هي الخطوة الكبرى له نحو الوزارة، ورغم وصوله إلى منصب وزير ورئيس لحزب الاتحاد الدستوري بعد رحيل مؤسسه وزعيمه المعطي بوعبيد، فقد حافظ السملالي على تواضعه الجم وتواصله مع البسطاء وميله للفقراء. وخلال استوزاره، كانت أبواب كل مكاتبه، سواء كمحامٍ ضليع في القوانين، أو كزعيم لحزب كبير، أو كوزير للشبيبة والرياضة، فقد كانت أبوابه مفتوحة في وجه المحرومين وطالبي المساعدات، وكان في كل صباح يأمر أعوانه بعدم رد أي ملف أو منع أي طالب حاجة من ملاقاته، فكان يستقبل الناس بابتسامة متواضعة وصدر رحب.
وهكذا كنت من الصحفيين المعجبين بطريقة عمله وتعامله فأجريت معه عدة لقاءات صحفية نشرتها على صفحات جريدة “السياسة الكويتية” التي كنت مديرا إقليميا لطبعتها الدولية التي كانت تصدر في المغرب.
وذات يوم دعاني السيد السملالي للغذاء بفندق هيلتون بالرباط. فجلسنا معا نتجاذب أطراف الحديث. فقال لي: “أتمنى ألا يكون معك مسجل لأننا الآن نتناول الطعام كصديقين”. فقلت له: “هذه جلسة عائلية يا أستاذ السملالي”. فقال لي بعد أن صمت قليلا: “أنا وكما تعلم درست القوانين، واليوم أنا وزير على وزارة حيوية تحقق الكثير للمغرب بعد تطور رياضات ألعاب القوى وظهور أبطال متميزين. ولكن في حياتي شيء آخر غير التدبير الرياضي والسياسي، فأنا كاتب مقالات وسوف أعطيك مجموعة مما كتبت راجيا منك نشرها على جريدتكم شريطة عدم ذكر اسمي”. وفعلا أخذت المقالات التي لاحظت أنه كتبها بخط يده، فوجدتها محررة بأسلوب أدبي رفيع المستوى وبأفكار متسلسلة ممتازة ومتناسقة بشكل جيد. فاتصلت به وقلت له: “لقد أعجبتني مقالاتك بشكل كبير، ولدي سؤال لك لو سمحت لي بطرحه”. فقال لي: “تفضل أخي” فقلت له: “إنك كاتب كبير وأديب ممتاز، فلماذا طلبت مني عدم ذكر اسمك في حين أن هناك عددا كبيرا من الشخصيات السياسية التي أعرفها والتي يسعى أصحابها لوضع أسمائهم بشكل واضح وبالبند العريض على ما يكتبون وما لا يكتبون”. فصمت وقال لي: “هل تعلم يا رمزي بأنني أريد فقط تحقيق حلم كبير عاش بداخلي منذ طفولتي ولست أبحث عن شهرة ولا مكاسب. فقد عشت حلما كبيرا بأن أكون في يوم من الأيام أديبا وكاتبا، حيث كنت خلال طفولتي أكتب القصص القصيرة وكان أساتذتي يذهلون عندما يقرؤونها، وكان ذهولهم يتضاعف عندما يسألونني عن الشخصيات التي وضعتها فيها فيجدونني أعبر بتلك الشخصيات عن مواقفي السياسية. حتى أن مدير المدرسة التي كنت أتابع فيها دراستي الابتدائية قال لي ذات يوم أمام مئات التلاميذ خلال حفل آخر السنة الدراسية بالميكروفون: انظروا إلى زميلكم عبد اللطيف السملالي، وتذكروه جيدا لأنه سيكون له شأن كبير ذات يوم إما ككاتب مشهور أو كسياسي مرموق. “ومرت الأيام وتحققت فراسة المدير الذي لاحظ بأنني كنت أكتب عن عالم السياسة بأسلوب الأدباء”. فعدت وسألته: “ولكن يا أستاذ السملالي من حقك أن يوضع اسمك على مقالاتك خاصة وهي بهذا المستوى الممتاز”، فقال لي: “أخي رمزي، أنا لا أبحث عن الشهرة فأنا خديم وفي لبلدي، ولملكي، ومهمتي الأولى والأخيرة هي خدمة وطني ورفع راية المغرب والعمل وفق الثقة المولوية التي وضعها في ملكي والناس الذين صوتوا علي”.
وكنت ألاحظ في أحاديثه تركيزا كبيرا على الصحة وأهميتها في حياة الإنسان.
حيث كان لا يتوقف في كل لقاءاتي به عن ترديد عبارة واحدة: “الصحة كنز لا نعرف قيمته حتى نفقده يا رمزي”. وفعلا فقد بدت بوادر المرض على السملالي في منتصف تسعينيات القرن الماضي ورغم ذلك ظل وفيا لعمله وظل يزاول مهامه السياسية والحزبية بكل انضباط. وكانت جعبته مليئة بالبرامج والطموحات لخدمة وطنه والناخبين الذين وضعوا ثقتهم فيه، ولكن القدر لم يمهله طويلا فرحل قبل الأوان.