سجل الأديب نجيب محفوظ، اسمه بمداد من ذهب في تاريخ الأدب العربي، حيث تميزت أعماله الروائية والقصصية بالريادة على مستوى الموضوعات التي ناقشتها آنذاك بجرعة زائدة من الجرأة والشجاعة الأدبية التي تمزج بين سلاسة الأسلوب وعمق الرؤية، وهذا الأمر راجع بالأساس إلى مساره العلمي في اللغة والفلسفة، وتأثره بطبيعة العيش في الأحياء التي تربى ونشأ فيها، حيث ولد بالقاهرة بحي الجمالية سنة 1911، والتحق بالكتاب وتلقى مبادئ عامة في اللغة العربية والدين، ثم التحق بعد ذلك، بالمدرسة الحسنية سنة 1925، وبعد أن أكمل دراسته بهذه المرحلة التعليمية، انتقل إلى الجامعة ليتابع دراسته بقسم الفلسفة، فيحصل على “ليسانس” وعمره في تلك الفترة، لا يتجاوز 23 سنة.
اشتغل محفوظ بوزارة الأوقاف المصرية، ثم وزارة الثقافة كمدير الرقابة الفنية، وكمدير عام ورئيس مجلس الهيأة المصرية السينمائية، وبعدها، اشتغل كعضو في المجلس الأعلى للثقافة، والمجلس القومي للثقافة، وهذا المسار الأكاديمي والوظيفي الحافل، كان بمثابة مادة أساسية في إبداعات نجيب محفوظ، حيث أصبحت له طريقة خاصة ومتفردة في الكتابة الأدبية المشوبة بالفلسفة التي تعالج حال وأحوال البسطاء من الناس في حارات مصر، وباقي الدول العربية، ولعل من بين المجموعات القصصية التي تناولت الواقع العربي، نجد “مس الجنون”، “دنيا الله”، “خمارة القط الأسود”، “شهر العسل”.. أما الأعمال الروائية، فهناك “عبث الأقدار”، “خان الخليلي”، “قصر الشوق”، “الحب تحت المطر”، “بين القصرين”، و”أولاد حارتنا”.
ورواية “أولاد حارتنا”، تعتبر من بين الروايات التي أثارت جدلا واسعا آنذاك، وخلقت ضجة في الصحف المصرية المحافظة، بعدما طالب رجال الأزهر، بضغط من المخابرات المصرية، من أجل منع الرواية بحجة التجريح بالمقدس الديني، نتاج تشابه بين أحداث وشخصيات الرواية، وبين أحداث وشخصيات دينية، في حين أن الرواية كانت تنتقد الوضع المصري والنظام الاجتماعي القائم قصد توجيه مسار الثورة كما قال محفوظ نفسه، وفي نفس السياق، تضيف الناقدة الأدبية، نوال سلاوي، في دراسة لها حول رواية “أولاد” حارتنا” التي نشرت في كتابها “المحاكمة بين الأدب والقانون”، حيث تقول: “إن التأويل الآلي لرمزية الشخصيات وأحداث الرواية وعدم استيعاب العمل الأدبي بمكوناته وخصوصياته الفنية في إطار خطابه العام، إضافة إلى طبيعة ونوعية القارئ العادي أو التقليدي المحافظ، كلها عوامل ساعدت على خلق قراءة تأويلية لا تحترم شروط الفهم والتفسير لخطاب أدبي محكوم بقوانين وشروط”.
ويعتبر نجيب محفوظ، من بين أشد المدافعين عن اللغة العربية والعروبة، حيث كان حريصا على تجنب الكتابة باللهجة المصرية في كتاباته حتى ولو استدعى الأمر ذلك في حوار مثلا، كان يعمل على تطويع اللهجة إلى الفصحى، لأن الكتابة باللغة العربية الفصحى، حسب محفوظ، هي توحيد للثقافة، والثقافة بدورها توحيد للأفكار وتعمل على تقريب بعضها من البعض بدون صراع ولا اختلاف بين الإخوة العرب، كما “كان محفوظ بفعله الأدبي، من أعمق العروبيين انتماءً لعالمهم العربي وثقافته، وبما لم يستطع مجاراته كثيرون من منتقديه” يقول الدكتور سلمان إبراهيم العسكري، في مقالة معنونة بـ “نجيب محفوظ.. عروبة القلب الوديع” نشرت بمجلة “العربي” الثقافية/ العدد 577، وفي نفس السياق، يضيف الكاتب متحدثا عن عروبة وقومية نجيب محفوظ، قائلا: “لقد اتهم البعض نجيب محفوظ في عروبته، لأنه أبدى رأيا مؤيدا لمحاولة الحصول على الحق العربي أو بعضه عن طريق التفاوض السلمي مع إسرائيل، وفات هؤلاء، أن رؤية كهذه، تستند إلى تكتيك سياسي لا ينفي عن صاحبه أبدا استراتيجية التمسك بالعروبة وحقوقها المشروعة”، ويحكي الكاتب نفسه عن حوار جمع بين مجموعة من الأدباء والمفكرين، وكان نجيب محفوظ واحدا من بينهم وزعيم عربي غني عن التعريف، فسأله محفوظ: “لماذا لا نحارب من أجل حقوقنا؟”، فرد عليه القائد العربي، بـ “أن الحرب ليست ممكنة في هذا الوقت”، فقال نجيب محفوظ: “إذن لنحاول الحصول على حقنا بالتفاوض”، فحصل سوء فهم كبير(…)، وتم تأويل كلامه، كما كان يرى نجيب محفوظ، أن من بين شروط النهضة العربية وتقدمها، هو الاهتمام بالتعليم والصحة والثقافة والشغل وكل الحقوق المرتبطة بالإنسان.
وقد رافقت المسار الإبداعي لنجيب محفوظ، عدة جوائز مهمة، نذكر منها: وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ووسام الجمهورية من الدرجة الأولى، فضلا عن كونه أول أديب عربي يفوز بجائزة نوبل للآداب سنة 1987.
وفي يوم الأربعاء 30 غشت من عام 2006، فارق أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الحياة عن عمر يناهز 95 سنة، وهكذا هي الحياة، فكل بداية لابد لها من نهاية، غير أن نجيب محفوظ، من بداية حياته إلى نهايتها، سيظل حاضرا في الوجدان العربي بقصصه الجميلة ورواياته الأدبية الرائعة التي عالجت الواقع المعيش بجرأة وتجرد، فرغم الرحيل، سيبقى بمثابة ظاهرة سردية خارقة، وأسطورة حكائية خالدة، لن تتكرر مرتين في تاريخ الأدب العربي.