لماذا لم تنجح دراسة “الجيولوجيا” في المغرب
ثنائية التضخم والانكماش تمثل أحد أوجه التناقضات الصارخة التي تعاني منها منظومتنا التعليمية، منذ انطلاق قطار الإصلاح البيداغوجي للتعليم الجامعي في الاتجاه المعاكس لقطار إصلاح التعليم ما قبل الجامعي. على صعيد التعليم ما قبل الجامعي، يتجلى التضخم (الكمي والنوعي) في شدة دسامة المقررات، بينما يتجلى الانكماش في المؤهلات المعرفية للمدرس المطالب بتدريس ما لم يدرُس. أما على الصعيد الجامعي، فالانكماش هو السيمة الأساسية في كل شيء، بينما يتجلى التضخم في المراقبة المستمرة للغياب والاختبارات المستمرة وفي الامتحانات الماراطونية. في هذا المقال سنتطرق للتعليم ما قبل الجامعي، وسنتطرق للتعليم العالي فيما بعد.
تم التطرق بالتفصيل من خلال كتابي “التربية والتعليم: اختلالات ومعاطب وثقافة مجتمع” و”التعليم بين الكفايات والإدماج، من كرة القدم إلى نظرية داروين” للتناقضات التي أسست لممارسات تربوية مدمرة للمُدرّس والدّارس والمدرسة، وللمجتمع تبعا لذلك. التضخم المعرفي يتجلى في التشوه الخطير للمفاهيم العلمية المدرسة، (الجيولوجيا كمثال)، الذي يشهد عليه الكتاب المدرسي، والذي لم ولن تنفع معه الإصلاحات البيداغوجية المتتالية.
يمثل تدريس الجيولوجيا بالتعليم الإعدادي والثانوي (كمثال) كابوسا حقيقيا للمدرس، وطبقا منفرا للتلميذ وعسيرا على الهضم. “يملي” الأستاذ ويكتب التلميذ، في تحد صارخ للتدريس “بالكفايات” و”الإدماج” كمقاربات بيداغوجية تبيّن جليا أنها غير مجدية، في غياب الكفاءات اللغوية والمعرفية. فبدل العمل على التخفيف من دسامة المقررات، فقد تم تحميل المُدرّس بالإعدادي (منذ 2005) مسؤولية تدريس مفاهيم علمية أرّقت، فيما قبل، رجل التعليم الثانوي وقضّت مضجعه، فهل من تعليقٍ؟ نعم، هكذا يتم الإجهاز على قريحة التعليم عند الأستاذ وعلى قابلية التعلم عند التلميذ، لنتظاهر في الأخير بالبكاء على أطلال صرح منظومتنا التعليمية.
مع ازدياد حدة التضخم المعرفي على مستوى كل أطوار التعليم ما قبل الجامعي، تم تغييب الآلية الكفيلة بالحد من سلبياته، والمتمثلة في التكوين المستمر الأكاديمي، الذي تم توظيفه في مسلسل الدردشات البيداغوجية التنميقية، في قلب صارخ للموازين والمفاهيم؛ فلقد أصبح التعرف على وسائل التدريس يشكل غاية في حد ذاته. فبدل التركيز على مسببات الأمراض، يتم التعامل مع الأعراض المرضية للتخفيف من وطأتها، إلى حين. منذ أن تم التنكر لفلسفة البرامج والمناهج التربوية السليمة، لما قبل أواسط الثمانينات من القرن الماضي، تم تبني نهج الهروب إلى الأمام الذي تجلى في مسلسل الإصلاحات المعطبة، بحيث أصبحت المنظومة التعليمية حقلا لتجارب المقاربات البيداغوجية العبثية. نهج الهروب إلى الأمام لم يبق للمُتبنّيين لهذه الإصلاحات أية فرصة للنظر إلى الوراء، للقيام بتقييم موضوعي وشامل لأوضاع المنظومة التربوية عبر القيام بمقارنة موضوعية، علمية، لما كان عليه الحال قبل وبعد تبني هذه الإصلاحات.
إصلاحات بيداغوجية عبثية، تسببت في إعاقات مستدامة في نهج التكوين السليم، والبناء التصاعدي المتدرج والمُتزن، والمتمثل في الأطوار التعليمية. فلقد تقمص التعليم الثانوي دور التعليم الجامعي في غياب المؤهلات المعرفية للمدرس، والمؤهلات اللغوية والفكرية للتلميذ. كما تم طمس معالم التعليم اللغوي بطور الابتدائي تحت وطأة تضخم معرفي مهول، لا محل له من الإعراب البيداغوجي. إنها بعض العناوين العريضة المؤشرة على إفلاس المنظومة التربوية.
هذه الاختلالات المخلة بأبجديات بيداغوجيا التعليم، شكلت عوامل استنزاف فكري وذهني وحتى جسدي لأطفالنا (حقائب الظهر المشوهة للعمود الفقري)، أدت إلى إرهاقهم نفسيا ونفسانيا، وإنهاكهم عقليا، وهو ما يتجلى في التفاعل السلبي النمطي مع ما يُدرّس لهم. ونتيجة لهذا أضاع الغالبية العظمى من التلاميذ ملكة الإنصات الضرورية للفهم، وكذا أبجديات منهجية التفكير السليم، فأصبح كل همهم تطوير سبل الغش وتنويعها وتعبيدها.
أ. د. عبدالله لخلوفي
مركز الدراسات والأبحاث والتقييم للتربة والتكوين