الرأي

وزارة العدل لا حاجة لها إلى من يأكل الغلة ويسب الملة

   بقلم. محمد بركوش 

      لم يوفق أحد البرامج الذي تقدمه أسبوعيا قناتنا الشمالية ولم يفلح في احتواء الموضوع المطروح والمتعلق بالقضاء والنظام الأساسي للقضاة، ابتعد كل البعد عن العمق والهدف، ترك معد الحلقة (الذي بدا مرتبكا أو خائفا أو به علة) ضيوفه يتنابزون بالألقاب في محاولة لإبراز الذات وإثباتها كما قالت كريمة مصلي في جريدة الصباح (العدد: 4321)، باستثناء ممثل الودادية الذي كان رزينا وحريصا على ألا يكون تائها، ومع ذلك كانت هناك إشارات بمفعول قوي ورسائل بتوجيه سديد، وبكتابة واضحة تقول برفض كل مس بخصوصية القضاء المغربي، واعتبار هذا الأخير تربة لتجارب الآخرين سواء أكانوا فرنسيين أو هولنديين أو غيرهم (أكيد أن الأمر هنا يعني إحدى الجمعيات).

الحلقة التي اختارت الضيوف على معايير غير مضبوطة وبشكل أثار حفيظة الأستاذة الناصري التي كانت تتربص بجارها في “البلاطو” لتلقي عليه القبض في حالة تلبس بالكلام، تلك الحلقة وضعت المواطن العادي الذي تتبعها باهتمام أمام خلاصة شديدة الوضوح في تأكيدها على أن القضاة أحزاب وشيع متفرقة، كل جهة تسعى إلى أن تسود ولو على حساب الجهات الأخرى، رغم أن القضاة وحدة متكاملة إن صح التعبير، لا يفرق بين عناصرها إلا الكفاءة والنزاهة وجودة الأحكام التي تحمل عنوان الإنصاف والعدالة، كل ما في الأمر هو أن الدستور الجديد ونصوصه المتطورة في بداية التفعيل والتجربة، خاصة النص الذي يسمح للقاضي بالانخراط في الجمعيات (وهي غير النقابات) على أساس الحفاظ على خاصية التحفظ)، والمطالبة بالحقوق بالطرق التي لا تمس بسمعة القضاء وقدسية رسالته، وفي حدود المعقول الذي لا يدفع إلى التظاهر أو الوقفات الاحتجاجية إلا عند الضرورة، حقوق لا يمكن حصرها في “تغيير وإسقاط مشاريع الرميد (الوزير)، وهي مشاريع كارثية، وماديا نحن نستحق أكثر من الفتات الذي يعرض علينا” (كلام ذ. محمد عنبر في استجواب بالاتحاد الاشتراكي، العدد: 10640)، بل ينبغي أن يتجرد القاضي عن أنانيته بعض الشيء، وأن يخرج بمطالبه من دائرة الاختناق والضيق، ويسير بها نحو توسيع رقعة الاحتياجات (الاستقلالية الحقة وليست الصورية، الكرامة، وضعية المحاكم، الموارد البشرية، ظروف العمل، توعية المواطن، تفعيل بنود الدستور).

إن جراح الجسم القضائي العميقة والمؤلمة والأعطاب المزمنة والتي تولدت عن سياسات سابقة لا يمكن أن تداوى بعشر وصايا وعسر الحقن كما قال الشاعر الملياني إدريس، ولا يمكن أن تعالج بوصفات معدة سلفا كنشر الأحكام المعيبة التي تصدر عن محاكم المملكة والتعليق عليها من قبل أناس يظنون أن الأرض ما كانت إلا لتدور من حولهم، لأن تلك الجراح غائرة جدا، لا تحتاج فقط إلى كلمات أو بيان ينطوي كما قيل على استعجالية خوض الحرب أو توجيه الضربات أو فض حسابات خاصة، بل على العكس من ذلك تحتاج تلك الجراح والأعطاب إلى وقفات تأملية ومشاركة فعالة (بقاعدة أوسع) وحوار صادق، وذلك لتحديد مفهوم الإصلاح ليس كمعطى يقيني يكون مصيره كمصير كل الوثائق التي ما إن توقع حتى تنسى، بل كتوجه سليم برؤيا وبأبعاد، وكقيمة متطورة ومسار بكل التحولات التي يعيش عليها المجتمع المغربي الذي لا يزال المواطن به في حاجة إلى ثقافة قانونية موجهة، وليست كتلك التي توزعها أو تسربها بعض الإذاعات لترسيخ “الجهل”، ثقافة تنمي الشعور بالوطنية وترسخ مبادئ المساواة وتعلم الاعتماد على النفس، وسلوك الطرق القانونية للوصول إلى الحق الضائع دون تدخل أو رشوة.

إن وزارة العدل والحريات على ما يبدو تتحرك بقوة، وتتجاوب مع الشكايات التي تفد عليها، وتسعى إلى تفكيك كل الإشكالات المطروحة في تلمس وضاء للمسالك القانونية ويمكن الإشارة هنا إلى ملف أحد أقارب مسوؤل قضائي بأسفي، وما أثير حوله من كلام (وهو ما أدى إلى إيفاد لجنة تفتيش لاستجلاء الأمر)، إنها أي الوزارة في غير حاجة إلى أي مشروع كيفما كان لكي تقوم بواجبها وتؤدي رسالتها خاصة إذا كان المشروع مملى أو مستوردا، إن صح التعبير، أو مصاغا في ظروف خاصة وفي بلد خاص (أوروبي أو غيره) نختلف معه في كل شيء، في القيم، وفي العقيدة، وفي العادات، وفي المدخول، وفي حدود الحريات، وفي العقلية والوعي، أو كان غير قابل للتطبيق مع وجود قوانين ودرجات للتقاضي تفسح المجال لكل مظلوم بين قوسين، كي يمارس مساطر أخرى، ويتوجه إلى محاكم أعلى، في نطاق مطوق بالقوانين والإجراءات، ولا يحمل على التأثير والتشويه، إذ لا يعقل أن تقوم جهة ما بالتعليق على أحكام ابتدائية وقبل أن تصير نهائية دون أن تتهم (ولو مجرد اتهام) بالتأثير في القضاء والمس باستقلاليته خاصة إذا كان بعض أفراد تلك الجهة معروفين بتحيزهم ومواجهتهم للقضاء كلما فلتت النتائج الإيجابية من أيديهم، إنها أي الوزارة في حاجة إلى حكماء، إلى رجال ونساء شرفاء(..) إلى كفاءات جادة تخلص للمهنة ولليمين الذي أدته في بداية المشوار، إلى تفاعل وتشارك وليست في حاجة إلى من يأكل الغلة ويسب الملة، أي إلى من يشارك ويقدم الاقتراحات وفي نفس الوقت ينتقد “على برا”، ما قدمه وما قدمه الآخرون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى