تكريم وزير العدل السابق العلمي مشيشي الذي صمد ضد مضايقات أصحاب الحال
بقلم. محمد بركوش
أمسية رائعة إن لم أقل في منتهى الروعة عشنا على إيقاعها العلمي الأسبوع الماضي بهية (كما قال أحمد ردسي من الأحداث المغربية) من بهاء وجه صاحبها المحتفى به الأستاذ الإدريسي العلمي مشيشي الذي كرمته كلية العلوم القانونية والاقتصادية التابعة لجامعة محمد الخامس، عرفانا بعطاءاته الغزيرة واعترافا بما أسداه في المجال الحقوقي، أمسية أعادتنا إلى الوراء عندما كان الأستاذ وزيرا للعدل، قبل أن تضاف كلمة “حريات” أرجعتنا إلى فترة ذهبية كان يمد فيها الغصون إلى الحياة دون أن يتملكه الوهم الذي يدفع إلى ركوب أحصنة الغرور، بعد أن اختار اختراق مسالك التغيير نحو الأفضل في فضاء كان سياديا، رغم علمه بأن الكبار هم الذين كانوا يتحكمون في اللعبة، ومع ذلك لم يسمح للشجاعة أن تخونه حتى في حالة طوارئ، حالات لا ينزعج منها، لأنه كان يتلمس إضاءة الطريق من عمق القناعة الصلبة التي تكونت لديه من دراسة القانون، ومن التجربة الطويلة التي ترسخت معها مبادئ قارة لا تتزحزح، لم يتوقف قط على تأكيدها وإرسائها في المشهد العام والخاص أيضا، وتجذيرها في تربة السؤال الحقوقي باسمه كرائد وبأسماء أخرى أساسية كانت تعمل إلى جانبه بلا ضجيج ولا ادعاء.
جمهور غفير من الطلبة المسكونين بهم الثقافة الذين يعرفون قيمة الرجل، يعرفونه برحابة الصدر وسعة الأفق وشمولية الاطلاع هبوا جميعا يمشون بسرعة مؤلمة، يشاركوا المشيشي فرحته بتلك اللحظة التي جسدت الحب والتقدير والاحترام إلى جانب عينة من المثقفين والساسة ورجال الإعلام والأصدقاء، كإدريس الضحاك الذي كان بمثابة مصباح في زجاجة يهتدى بنوره (علمه) حتى وهو في أجواء لا تبعث على السؤال أو الاستشارة.
لقد كان الأستاذ المشيشي (وهو وزير للعدل) يطرح أفكارا وآراء متقدمة سابقة للعصر، ظل يرعاها بعناية وروية كنص شبيه بالمقدس، من أجل تنوع المعطى القانوني الذي كان في تلك الفترة يشهد تطورا واضحا وقفزة سريعة من خلال الاجتهادات والأحكام والبحوث التي كان يشرف عليها أو ينجزها مبجلون، تنامت لديهم فكرة الانخراط في مجرى التحول الهادف الذي لا يرجى من ورائه سوى خدمة الحق وإصلاح العدالة وتكوين القائمين عليها عمليا، وليس داخل مراكز أصبحت اليوم في حاجة إلى خلخلة في جاهزيتها، هذه الأخيرة التي لا تساعد على تطوير المفاهيم وفرض الشخصية القانونية المحصنة والقادرة على مواكبة كل المستجدات التي تطرأ بين الحين والحين دون النزول إلى مستويات تنزع المهابة والاحترام.
قضى الأستاذ الكبير سنوات محترمة إن لم أقل عقودا في البحث عن بديل لتجاوز ثقل المشاكل، مشاكل الحاضر والمستقبل لأن طموحه لم يكن له سقف مؤقت، وظف من أجل ذلك المزيد من الاعتناء وتحطيم التصانيف القديمة في محاولة الاستمرار كما قيل في مصادقة الواقع بشفافية والرفع من مكانة القضاء، ولذلك كان يصطدم في كل مرة بأصحاب الحال الذين كانوا يهابون وثيقة الإصلاح التي كان يتأبط بها، ويعملون في الخفاء من أجل الإيقاع به في حالة تلبس بتعرية واقع مريض وعدالة معطوبة وفساد مستشرٍ، كان يسعى بكل قواه إلى إحداث شبه انقلاب بطريقة هادئة غير ثورية في المفاهيم السائدة أنذاك، انقلاب كما قال الشاعر مصطفى ملح “في حالة الطقس وفي وردة الميتمين” في كل شيء يسير بالعدالة أو تسير به، لأنه كان ينظر إلى هذه الأخيرة كنهر باطني “كما سماه الميموني” يمكن بسهولة أن ينهار به حتى الذي يتقن السباحة، ويمكن أن ينجو (رغم الجهل بالعوم) المتحلي بالأخلاق والمؤمن بالعدل كصفة من صفات الخالق، والمحتكم إلى الضمير.
الكل في تلك اللحظة المفعمة بالحب والإنسانية كان يتحدث عن جدية الرجل وصموده القوي وعدم استسلامه بسهولة (للمسدسات الكاتمة للصوت) كما قال أحد أصدقائه، عن نبوغه المبكر وملكته النادرة في قراءة النصوص وفكها من أغلالها وقساوتها، وفي الدفع بها لتكون طيعة كالعجين بدون أسرار أو باطن في أيدي المتعاملين معها أو المشتغلين عليها، ولذلك عندما كان وزيرا للعدل كان يحث على التخفيف ما أمكن ومراعاة الظروف وعدم التسرع في إصدار الأحكام وإعطاء فرصة للدفاع لتكتمل صورة المحاكمة العادلة: قلت ملكة كان لها أثر بالغ وواضح في مؤلفاته المتنوعة، وفي ندواته التي كانت تستدعي أقصى المناطق المنيعة في مجال القانون والحقوق، وكذلك في البحوث التي أشرف عليها وهي بحوث بشهادة الجميع في منتهى الجدة والجودة واللتين يذكران بالمشرف وأصالته وعمقه وحسه القانوني.
قضينا أمسية في كامل الروعة ستبقى عالقة في الذاكرة كشهادة حية على كبرياء الرجل واحترام الناس إليه وتقديرهم له، قضيناها مع وجوه كدنا ننسى ملامحها بفعل الأيام لولا عطاءاتها وتجاربها وما تركته لنا وما أهدته للجامعة المغربية من أسرار علمية، وما صنعت من نخب ملأت الدنيا بإنتاجاتها وتأطيرها، واستطاعت أن تحافظ على المدرسة التي أسسها الأستاذ المشيشي على الإبداع والاختلاف المؤسس وعلى الحرية المطوقة بالمسؤولية، وأن نضيف إليها جرعات من الجرأة العلمية والابتكار ونوع من الشمولية والعالمية.