الـــــــــــرأي | ثورة قانونية لتسليط الضوء على المنسي من المعاقبة
بقلم. محمد بركوش
لم يوقع وزير العدل والحريات “المحامي الذي كان سيدا في ميدان الدفاع إن لم أقل متغولا بالشكل المحبوب” لم يوقع موعده كما يقال مع المصالحة التي أضحت ضرورية اليوم لتلطيف المناخ والحد من قساوة المواجهة: المصالحة مع القضاة والمحامين وكتاب الضبط وباقي المكونات الأخرى، خرج من وسط الجوع التي كانت تؤثث لقاءه المغلق بعزف قديم لم يعد أحد يطرب لسماعه، قال كلاما لا يخلص أشرك فيه رمزا مشتركا نحبه جميعا دون استثناء، كلام مستمر ومترجل كما قال أحمد شراك، تنبأ أسيادنا “خطأ” بإقباره إلى جانب جثت الظروف التي كانت تشجع عليه وتدفع من أجل المزيد على ترديده.
لحظات ربما كانت قاسية على السيد الوزير المحامي الحقوقي لم يستطع معها جمع هوله، لأنه رغم كل ما يشاع عنه رجل يحترم القضاة ويتعاطف مع الزملاء، ويهتم بحال العاملين بالقطاع، وبأوضاعهم التي لا تسر أحدا من الناظرين، ويسعى بكل ما لديه إلى ما يخلد اسمه في سجلات الوزارة، ويترك بصماته التي ستبقى شاهدة على مروره من كرسي مريح لم يؤثر في أخلاقه ولا في طيبوبته ولا في قناعاته التي تعيش هذه الأيام فترة نقاهة، ولكن للظروف أحكاما كما للمنصب، لم يتمكن من شل الغضب وهو الذي يعرف بأن الشديد ليس بالصرعة كما قال سيد الأولين والآخرين، ولكنه الذي يملك النفس عند الذروة “ذروة الغضب”، قلت لم يتمكن خاصة عندما يتحدث بلغة رأى فيها البعض صنفا من التهديد المبطن واعتبرها آخرون خطوة أولى لإقبار “مشروع يقظة مدنية” كما قال الجماهيري في عموده “الخاطر”.
نادي القضاة المنشأ حديثا والذي يضم شبابا متحمسا ومتسلحا بوازع مهني وثقافة عالية رفض قضاته النزوع إلى الوصاية وتحت أي مسمى من المسميات اعترضوا على الاستفراد بالقرارات التي تمس جوهر الاستقلالية، ذلك الاستفراد الذي يؤدي في نظرهم إلى عزل النص المراد إخراجه إلى النور عن أشكال حضوره في المجال التطبيقي، وحصر امتداداته في دائرة تحد من الإجماع والتشاركية المطلوبة ولا تقبل بالمساءلة، هذه الأخيرة التي تعتبر مفرملة لكل جنوح أو مرور لما هو غير قانوني أو دستوري، لأنه “أي النادي بكل مكوناته” بدأ يتطلع إلى تشذيب الفصل 111 من الدستور الجديد، وإعطائه كل الفرص إن صح التعبير لتحقيق راحة للقضاة “مهنية ونفسية واجتماعية”، بعيدة عن الإشارة أو التفعيل غير السليم المؤدي إلى الحبو فوق سكة مؤلمة، ويتوخى خلق مواقف افتتانية معبرة، وهي مواقف يمكن أن تحضر على جهة البداهة، ويمكن أن تتلون كما قيل بطبيعة الوعي المتقدم بالمسؤولية، وما تتطلبه هذه الأخيرة من نزاهة واقتدار وصفاء في الضمير، خاصة وأن الدستور المغربي المصوت عليه أخيرا خص القضاة بأجنحة إشراقية للتمكن من ممارسة الإبداع وفرض الذات والانخراط في الجمعيات، واستيلاد “من الولادة” نماذج منسوجة على نول قويم لا يخشى عليها من الانفلات، ولا الخوض في الشبهات المتكومة بفضل فوضى العالم المتحضر الذي أصبحت متطلباته تحلل أكثر الأفعال الدانية من الحرام “والمثال ما يردد في ردهات إحدى المحاكم عن ملف ضخم لم تسلم نتائجه من تشكك وهمسات”.
قضاة الودادية الحسنية “الودادية من أهم أذرع الوزارة حسب ما يقال” مستاؤون من وزارة العدل والحريات “الأحداث المغربية العدد 5196” لأن اقتراحاتهم التعديلية لمسودة مشاريع القوانين التنظيمية المقترحة تم القفز عليها بعد تهميشها رغم كثافتها الاستفادية، وبالأخص مسودة مشروع القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة، ولأن “محاولة السلطة التنفيذية المشتغلة في تنزيل الدستور في شقه المتعلق باستقلال السلطة القضائية ليست ملهمة، لبعدها عن “خدمة النص وكذا مضمونه”، ولذلك أعلنوا بكل قوة عن غضبهم من إفراغ النسخة الأخيرة لمشروعي القانونيين المحالين على الأمانة العامة للحكومة من محتواها وتجريدها من “مجموعة من المكتسبات والحقوق التي توفرها القوانين المعمول بها”.
وأكيد أن خروج الودادية الحسنية عن صمتها ليس له من دافع “على خلاف النادي الذي خدموا لها مبررات واهية” سوى خدمة العدالة والحفاظ على المكتسبات التي ناضل من أجلها شرفاء من خلال رابطة القضاة التي أسست في شهر ماي من سنة 1961، وتكريس مبدإ الاستقلالية الذي يعتبر من أهم روافد العدل، حيث يسمح بتدبير الحقوق والفصل في النزاعات بقناعة واقتناع خارج أي مهاتفة أو صيحة مضرة بالوضع القانوني، إذ المعروف عن أعضائها ومنذ النشأة الأولى “وهم المتمكنون والمحنكون” دفاعهم المستميت عن سمعة القضاة “سواء ببذلة أو بغيرها” والتزامهم بفلسفة الإصلاح بمفهومه الشمولي وليس الضيق الذي لا يترك فراغات لوقت الحاجة، وسعيهم إلى كسب رهان التموضع في خانة الانتصار لهذا الأخير “أي الإصلاح”، الذي سيضيء بلا شك بعض الجوانب المعتمة في المنظومة الحاضرة الغائبة، وسيؤدي لا محالة إلى تغيير الكثير من الممارسات ودك العديد من البنيات المستحكمة في المشهد القضائي بإيعاز ممن لهم مصلحة دائمة في إبقاء الأجواء على ما هي عليه عن طريق التخفي وراء “نحت” تصرفات مكتوبة بلغة الاستغلال كما قالت “جوليا كريستيما” لا تؤدي إلا إلى تعميق المشكل، مشكل الجريمة العامة “جريمة في حق العدالة وفي حق المجتمع والأفراد”.
لقد طفت على السطح، مؤخرا، مبادرات ديمقراطية كما سماها “بيان النادي” ستدفع بالفاعل القضائي ليتقدم خطوات إلى الأمام دون خوف من الانتكاسات التي يحاول البعض جره إليها، مبادرات من شأنها أن ترفع من منسوب الثورة القانونية المستهدفة، والتي لا تتوقف عند النصوص والقوانين، بقدر ما تروم الوعي بالحقوق والمكتسبات، ثورة تحيل على صياغة تصورات متعددة لواقع متشعب، تتحتم قراءتها داخل سياق وحضور مادي وواقعي، في سعي لربط القانون بالواقع السريع التطور، والتوسل إلى كل ذلك باستراتيجية واضحة المعالم والأهداف تنزع إلى التشظي والتقويض من أجل تسليط الأضواء على المنسي والمتخلى عن معاقبته “كزواج القاصر بالمغتصب” ورد الاعتبار للمرأة وحامياتها من التعنيف والتحرش الجنسي، دون نسيان وضعية العاملين بالقطاع والذين ذكر الأستاذ عنبر إن مجموعة منهم تعيش على الكفاف والعفاف، وعلى الفضيلة وعزة النفس.