المنبر الحر

مقاصد الشريعة ومشاكل العصر – الحلقة الأولى

بقلم: مصطفى الطريبق

     الشريعة الإسلامية شريعة الاستمرارية والخلود، لا تتقيد بزمان ولا بمكان، فهي صالحة لكل العصور، وهذا الخلود ثابت فكرا وفعلا وفقها وتنزيلا، واعتمادا على الوحي المنزل وما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فالشريعة الإسلامية لا تتعارض أبدا مع ما ينفع الإنسان في حياته، وما يسير به إلى التقدم والتمدن والارتقاء إلى الأمام في السبيل المستقيم والعمل على بناء مجتمع معافى من كل الأخطار التي تهدد سلامته، وتتسبب في انهياره وتداعيه، فالشريعة الإسلامية فيها الدعوة إلى العلم والحرية، وكرامة الإنسان، واحترام المرأة واعتبارها شقيقة الرجل، فقد “أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أن النساء شقائق الرجال في الأحكام، فليس للرجل من حق لا تملكه المرأة أو ما يقابله، وليس يجب على المرأة إلا ما يجب على الرجل إذا تساوت المهمات، فالواجبات والمحظورات الشرعية يخاطب بها الرجل والمرأة، والثواب والعقاب متساويات في الجزاء إذا تساوت الأعمال”.

ومن هنا ابتدأ تحرير المرأة “انظر مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للزعيم علال الفاسي ط.1 مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء ص:244”. والشريعة الإسلامية تدعونا إلى معرفة الزمن الذي نعيشه والعمل على تطويره وتقويم ما اعوج منه ورفض ما هو قبيح وسيئ يتعارض مع واقع الإنسان في إطار من الاستقامة والفضيلة، وقبول ما هو صالح يهدف إلى حياة فاضلة متكاملة ومنزهة من كل الشوائب. ومن مزايا الشريعة الإسلامية أنها تدعو إلى التفكير واستعمال العقل.

وأسمى ما دعت إليه الشريعة الإسلامية وجعلته ضروريا ليضمن المسلم لنفسه أن يعيش حياة إسلامية، وليضمن لنفسه التعرف على كل ما يجب الإقدام عليه، وما يجب الابتعاد عنه: الاجتهاد.

فقد جعلت الشريعة الإسلامية للاجتهاد مكانة وقيمة ومنزلة عليا، وتسهيلا للاجتهاد وإظهارا لقيمة المجتهد فإن للمصيب في الاجتهاد أجرين، وإن للمخطئ فيه أجرا واحدا، “وقد جعل الله الاجتهاد من مهام ووظائف المجتهدين الذين يقومون على استنباط الأحكام غير المعلومة من الأحوال والإمارات المعلومة وضرورة استمرار ذلك الوجود في كل الأزمنة والبقاع، ويعلم كذلك الضرر” (انظر مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للزعيم علال الفاسي ط.1 مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء ص:160). ولاشك أنه إذا ذكر الاجتهاد ذكرت الفتوى، ولذلك فالفتوى لها حيز كبير في الشريعة الإسلامية، وقد عمل بها الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم في ذلك التابعون ومن تبعهم إلى زمننا هذا، وهي ليست مباحة في الإسلام لكل من هب ودب، بل لابد من شروط، لأن المفتي هو المستقل بأحكام الشرع نصا واستنباطا، ولهذا يجب أن تتوفر فيه شروط منها: العقل والبلوغ والورع لأن الفاسق لا يصدق ولا يعول على قوله، ولابد من علم اللغة لأن مآخذ الشرع ألفاظ عربية، ولابد من التعمق في غرائب اللغة وعلم النحو لإمكان إدراك إشكالات القرآن الكريم، ولابد من علم الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ومعرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لأن سيدنا علي كرم الله وجهه سأل قاض: فقال له: “هل تعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال: لا، فقال له علي كرم الله وجهه: هلكت وأهلكت”، ولابد أيضا من علم التاريخ لمعرفة المتقدم والمتأخر، وكذلك العلم بالسقيم والصحيح من الأحاديث، وكذلك سير وحياة الصحابة ومذاهب الأئمة والسير على مذهبنا المتبع عندنا وهو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وذلك لكي لا يخرق الإجماع، ثم لابد من أصول الفقه ومعرفة أحكام الشرع، وإذا كانت هذه هي شروط الإفتاء ولا يكون إفتاء إلا باعتماد الاجتهاد، فيجب أن ندرك أن الاجتهاد قياس، ولا يخلو من شروط. وقد حددها الإمام الشافعي فقال: “ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله فرضه، وناسخه، ومنسوخه، وعامه وخاصه، وإرشاده، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم علما بأن التأويل عند أهل السنة من المظنون باتفاق، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبقياس، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه ولا يعجل بالقول به دون التثبت، ولا يمنع من الاستماع ممن خالفه لأنه قد ينتبه بالاستماع لترك الغفلة ويزداد به تثبتا فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك (انظر الرسالة ص:509 تحقيق الدكتور أحمد شاكر).

وإذا عرض أمر على المفتي يجب ألا يتسرع في الاجتهاد والمبادرة بالجواب، وإنما عليه أن يعرض ذلك على نصوص الكتاب، فإن أعوزه فعلى الأخبار المتواترة، فإن أعوزه فعلى الآحاد، فإن أعوزه فعلى ظاهرة القرآن، وإن لم يعثر على لفظ من كتاب ولا سنة نظر إلى مذهنبنا السني الحنيف مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وعليه أن يتبع الإجماع ويلاحظ القواعد الكلية أولا ويقدمها على الجزئيات.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى