الـــــــــــرأي |أحرضان ضرب بكفيه على الأرض الراكدة
بقلم. محمد بركوش
أتى على أحرضان الزعيم أو “الزايغ” حين من الدهر وهو ماسك بلسانه في انتظار انتهاء مكر المسافات، أتى عليه وهو تائه “بلغة الاستلطاف” وسط وثائق ومخطوطات وتسجيلات، يستولد من رحمها الماضي لحظات مشعة لليوم والذي بعده، في محاولة جيدة للترخيص أو الإذن للشغب التاريخي إن صح التعبير كي ينمو بعد أن تغرب كثيرا، وكف عن البوح بإسرار طاعنة في الضيق، ولكنها حارقة، في مقدورها أن أطلق سراحها أن تدمي أسطورة مصنوعة من انحراف السرد أو حيف في النقل.
فجأة ودون إخبار أو إشعار قرر الزعيم أن يغادر السفح، أن يحط بقدميه بأعلى قمة في الجبل الناطق، أدرك كما قيل أن يكون “هم” ونفسه وأشياء أخرى أن يلملم هول الأخطاء لأناس لا يتحمل رؤيتهم ينعمون في يم الافتراء، ويشربون من كأس الانتصار بفضل هذا الأخير، فجأة أسرجت الخيول، وجهزت القوافل بكل المؤن، واحتشد خلق كثير ببيت اسم وازن، بصم لردح من الزمان الحقل السياسي ببصمة أثرية، وأمده بقيمة مضافة من الانشغالات والأسئلة التي استأثرت لاهتمام الكثير من الكبار الذين كانوا يزحفون فقط من أجل الاقتراب من أهم مبادئي الديمقراطية إلا هو مبدأ التعددية، اسم صنع مقعده وسط شيوخ الريشة الذين كانوا يستشعرون في حضرته التقدير والاحترام، ويكتشفون في كل مرة أنهم أمام “طفل في التسعين” يحكي في اللوحات عن عمليات بإسرار، يحكيها بدون خشيبات.
خرج الزعيم الذي كان يخلد للإبداع في مرسمه المطل على زرقة أبي رقراق متأبطا نحافته، يدور مع الريشة كما تدور رغبات الحياة، ويردد معها ترانيم شمس غاربة، اعتذر على الجلوس لأنه غير متعود عليه، هكذا قال المسكون بالوقوف والصمود كالشجرة الباسقة، بدأت الأشياء تحضر تلو الأشياء والأحداث التي ستحطمك بعض الأصنام السياسية كما قال “أوريد” تتوارد تلو الأخرى، وبدت العبارات العنيفة التي ترتب فوضى التاريخ المنشأ مصوبة بمهارة ومصاغة بذكاء الكلمة كما قيل، الكلمة التي تشبه الرجل إلى المنتهى، نفس الوضوح الذي يفوح منها “أي من الكلمة” يتألق على لسانه، نفس القيم النبيلة التي تزخر بها مذكراته تحملها شخصيته العميقة، ذات القوة النادرة في تأجيج نار لا تهب من جرها، كما قال الشاعر “الرباوي” إلا الأزهار.
في الجزء الأول من المذكرات “في انتظار الجزء الثاني الذي يتصرف في حرملة أعرف عنها الكثير وأحفظ لها في ذاكرتي أنا والأخ الهاشمي السموني الأكثر”، في ذلك الجزء تحدث بلغة مبلولة بالتحدي، محشوة إن صح التعبير بالصدق، مرموزة بسيل من الذكريات الناطقة، والتي عاشها من زاوية مخالفة لأصحاب الروايات الأخرى كما عبر عن ذلك حسن أوريد، كان يسير بلغته الهادئة في السرد على هوى مبدإ واحد يخوله كافة الصلاحيات “لأمانته” لكي يقول “ما لا يمكن أن يقال بطريقة أخرى”، على حد تعبير “كارلوس فوينتيس” وهو المبدأ الذي استطاع “إيتلو كالفينو” التنظير له في كتابه “ست وصايا للألفية القادمة”، وكان ينطلق في شهادته التي ستملأ الدنيا وتشغل الباحثين وتبحر بهم إلى شط الحقيقة من أسس ثابتة، وعبر مصفاة اسمها التدقيق، ومن تعاقد شامل، للمضي في خلخلة وقائع كنا نسمع عنها من أفواه لا تختلف عن غيرها، وللسير بأحذاقها في دروب من النور والأضواء الكاشفة عوض دروب التوظيف السيئ لها والتحليل المصلحي الذي لا يخدم إلا سعي الراغب في المصلحة الشخصية أو العائلية، وذلك كله بهدف أسمى وأعلى ألا وهو التعريف بحقبة حارقة ودامية، محدودة في الزمان والمكان وكذا الأوجه الفاعلة، وتوجيه الأنظار إليها لكي تقرأ قراءة جيدة، ومجردة غير مشوبة بالأخطاء المقصودة والإضافات المفضوحة.
لقد ركبت وامتطيت أيها الزعيم المقتدر زورقا بعد أن تلونت أنفاسك بجمر غير بارد، يسير بأسرع مما في الشراع من ريح غير عاتية كما قال صلاح بوسريف، دون أن تشرد بك زرقة المياه ولا تلاطم الأمواج، ضربت بكفيك سطح الأرض الراكدة، مستغيثا بترابها، وخطوات أقدام اقتفيت آثارها بعد أن غاصت بأصحابها في الثراء والاستحواذ وامتلاك البلاد التي لهم وليست لنا، فعلت كل ذلك لتغيير مسار ملتو، وحرق جزء من رفوف قديمة، من غير أن يتربع الجبن مساحة فيك، وأيضا لتسلط إشعاعا كثيفا على حقائق مبهمة، في حاجة إلى أن تخرج من رحم الغموض، وتقول بنفسها: بسم الله، مجراها ومرساها، من اليوم سنبدأ حصة التاريخ الجديد، سنكتبه بيراع موحد وحبر كذلك، دونما إضافة أو استغلال أو تفاخر بهكذا دور أو عملية أو توقيع.