الرأي
مـــن ينــصف تـــاريــخ مراكش ورجـــالاتهــا
قرأت غير باغ ولا عاد، قصة شخص أوثق الحبل على أحد رجالات مراكش الوقورين ومرابضيها المنذورين للخير والفداء. يتعلق الأمر بالمجاهد الاستقلالي مولاي أحمد بن مولاي محمد بن مولاي عبد الرحمن بلوافي الإدريسي، وهو الخال الذكر الوحيد للوزير محمد الوفا.
ذكر الشخص أعلاه أن المرحوم الفدائي مولاي أحمد بلوافي كان من خونة الوطن، وأنه أضحى متزلفا لخديم الاستعمار الباشا لكلاوي في خمسينيات القرن الماضي.
بيد أن تناقضه الصريح ظهر في ارتباك روايته، عندما أشار في خضم تسميته للخيانة التي قال عنها إنها بطعم الحلو، مذكرا بتعذيب الباشا لبلوافي وهو معلق بسقيفة داره المخزنية ووسط حاشيته من أهل الحاضرة المراكشية.
لقد أخطأ الراوي مرتين: الأولى، عندما فصل تاريخ الشرارة الأولى للكفاح الوطني المسلح أيام 13 و14 و15 غشت 1953، والمعروفة بمظاهرة المشور، التي حالت دون تنصيب ابن عرفة ملكا يوم 15غشت 1953، والتي كان فيها المجاهد مولاي أحمد بلوافي رفقة زملائه الفدائيين علي الراشدي وعبد القادر شفيق ولحسن الطغرائي وبوجمعة موجيير ومحمد حكمت بلفقيه ومحمد السابياي ومولاي لكبير اليوسفي والحاج ادريس الطغرائي، من أهم مدبري الانتفاضة التي قلبت موازين مخازنية الباشا لكلاوي وذيول الاستعمار.
أما الخطأ الثاني، فعدم إلمام المدعي بتفاصيل تاريخ العمليات الفدائية التي قادتها مجموعات مسلحة نبتت في حواري المدينة العتيقة ونواحيها. وللذكر فإن الأحداث الكبرى التي روعت المستعمر وخادميه، لم تكن إلا عتبة لمجموعة عمليات لخلايا العمل السري التي أطرتها نخبة من الوطنيين الأشراف. نذكر للإشارة فقط عملية نسف القطار الفرنسي الذي كان يربط بين مدينتي مراكش والدار البيضاء، وهي العملية التي نفذ بعدها حكم الإعدام في الشهيد محمد بلحاج البقال واثنين من رفقائه.
وأصبحت المنظمات الفدائية غاية في الدقة والحزم والتنظيم المحكم، وخاصة على مستوى توزيع المهام، ومن بينها المهام الخطيرة التي كان ينسقها المجاهد بلوافي رفقة أعضاء من الخلايا السرية على مستوى أحياء المدينة القديمة بتيشنباشت وقشيش والمواسين والقصبة. حيث سبق لشهود حاضرين أن أدلوا لي بما تأكد من معلومات حول تنسيقه الدائم مع الهاربين من جحيم زنازين الكلاوي، حيث كان يمدهم بالمال والعتاد والتنقل والأكل والشرب والملبس والمأوى.
وكانت لعمليتي مسجدي الكتبية وبريمة دور كبير في إلقاء القبض على الفدائي مولاي أحمد بلوافي، خصوصا بعد محاولة قتل ابن عرفة بمسجد بريمة، حيث تصدى لكلاوي شخصيا لمنفذ العملية الشهيد أحمد أقلا الذي لقي مصرعه بسلاح الباشا الشخصي، ثم عملية إلقاء قنابل على الجواسيس بمقهى فرنسا واغتيال مندوب الحكومة الفرنسية “موني” واغتيال الجنرال “دوتفيل” رئيس الناحية العسكرية بمراكش آنذاك. كما تمت عملية محاولة قتل الجنرال “كيوم” المقيم العام الفرنسي نفسه. وعلى إثر ذلك صدرت مجموعة من الأحكام القاسية ضد الفدائيين، ومن بينها أساسا إعدام الشهيد حمان الفطواكي وآخرين.
وهنا يجب التأكيد على اختفاء الفدائي بلوافي عن أنظار المخزن الباشوي وزبانيته طيلة سنة، متنقلا بين وزكيتة نواحي تاكركوست والقصبة داخل السور، حتى متم 1954 حيث ألقي القبض عليه وقدم لمحاكمة شهيرة أفضت إلى إصدار الحكم بإعدامه، لولا أن الأقدار صارت على ما لا تشتهيه إرادة الكلاوي، الذي كان يكن حقدا دفينا لبلوافي، لمعرفته الضليعة بنشاطاته المحبكة وتحركاته الذكية. إذ قام الشهيد علي الراشدي بتقديم نفسه قربانا لصديقه بلوافي مقدما شهادته لصالح الأخير، فأطلق سراحه بعدما قضى زهاء عامين تحت أرض معتقل العدير الفلاحي سيء الذكر نواحي الجديدة.
وبعد، فإنه لا يجب استرخاص تاريخ الأشراف من أبناء الحاضرة المراكشية العتيدة، وما قاموا به نصرة لوطنهم وأمتهم. وما التطاول على فكر النخبة المغمورة من رجالاتها زمان الاستعمار الباشوي والفرنسي، ومن بينهم من أفنى روحه وعائلته وقدموا تضحيات جسام ليحيا الوطن وتستمر عزته وسؤدده، إلا محاولة لتعرية حجم الخسارات التي رافقت توثيق تاريخنا المهضوم.