الحقيقة الضائعة | المغاربة صامتون.. والأغلبية الصامتة أسقطت دول المرابطين والمرينيين
10 مارس، 2016
0 4 دقائق
بقلم: مصطفى العلوي
في سنة 1975، كان طالب تونسي يدرس الطب في المعهد الطبي LATIMOR بمرسيليا الفرنسية، فامتحنه أستاذ عنصري يكره العرب، اسمه “أولمير” وأعطاه صفرا.. وسكت الطالب وابتلع ظلمه، وفي السنة الموالية عاد نفس الطالب أمام نفس الأستاذ، فأعطاه صفرا، وهو يقول له: لا تصدع رأسك، فإني مادمت هنا، فإنك لن تنجح. وسكت الطالب ولم يقل شيئا، وإنما ذهب وبحث عن بندقية، أخلى رصاصها في جوف الأستاذ “أولمير” ثم جلس يدخن سيجارة في انتظار البوليس.
وهذا مدلول الصمت.
فقد كان الصمت دائما.. سلاحا فتاكا، خلافا لما تربى عليه المغاربة الذين كانوا يقولون على لسان حكيمهم عبد الرحمن المجدوب: ((الصمت.. الذهب المشحر، والكلام يفسد المسألة)) تناقضا مع المثل الآخر: ((دوز على الواد الهرهوري لا تدوز على الواد السكوتي)). وها هي الحكمة المغربية، تلمح لخطورة السكوت رغم أن الماسكين بزمام الأمور هذه الأيام، أصبحوا يجدون في السكوت حلا لمشاكلهم، وقد استفحلت في الفترات الأخيرة، أصوات السياط المنهالة على كل من يخرق جدار الصمت، بموقف أو تصريح.
وقد سبق أن أصدرت سنة 1977 عندما كانت الأحزاب المغربية بارعة في الثرثرة السياسية، كتابا بعنوان “الأغلبية الصامتة”، قدمت له بأبيات شعرية لقاض في ذلك الزمان، ليس كبعض قضاة هذا الزمان(…) يسمى الأستاذ حماد العراقي، لخص في شعره مغزى الصمت وأخطاره:
في الصمت معركة الحكيم
إذا سجى الليل البهيم
وتطاولت للنهب
فئات الضلال على النعيم
وتمكنت قوى الشرور
لتحمل الفزع الأليم
فاصمت، فقد تأتي الظروف
بما يتوق له الحكيم
والحكيم الأول الذي انتظر طويلا، هو شيخ العدل والإحسان، المرحوم عبد السلام يس، الذي بنى حركته القوية، باعتراف الجميع، على الصمت، كخطوة مرحلية نحو المصير المحتوم، ظنا منه أن الحكمة قد تتغلب، فأعلن عجزه عن اختيار القوة لخطورته، وكتب: ((من القومة المسلحة إلى الاحتجاج الصامت)) ليبقى الصمت هو ملاذ الضعفاء.
وقديما في عهد الجهالة التي عاشها المغرب، كان الصمت الجماهيري يكتسي شكل انتهازية الصامتين المتفرجين في النموذج الهمجي المطبوع بالجهل المطبق كما وصفه واحد من مؤرخي ذلك الزمان أيام السلطان مولاي حفيظ سنة 1910 ((كانت الإعدامات، وتعليق الرؤوس يوميا(…) في باب محروق بفاس، وكان يتجمع الناس في الأسواق كل يوم خميس، وبائعو الحلويات يتحركون بنشاط في الأسواق، والسقاؤون يقرعون أجراسهم والنساء يضحكن خلف حياكهن، والموسيقى تعزف حين يختلط فريق السلطان مع فرق الشيخات، المزينات بالحلي، فكان الحفل بهيجا والجزارون يشحذون سكاكينهم لقطع أيدي وأرجل السجناء، وسالت الدماء وسط أفراح فاس)) (لويس أرنو. زمن المحلات).
صورة كاريكاتورية حقيقية، لواقعنا الحالي، حيث الناس في أفراحهم وأقراحهم وليزافير ديالهم، وبيعهم وشرائهم، لا يعرفون لماذا تقطع رؤوس الآخرين، وإذا سألت عاقلا منهم أجابك بمقولة شيخ الصامتين، عبد السلام يس الذي قال في إحدى قصائده:
إني أحيي عدوي عند رؤيته
لأدفع الشر عني بالتحيات
ذلك أن المغاربة في زمن الديمقراطية والدستور، أصبحوا أكثر صمتا ممن سبقوهم، وحتى كتابهم الذين يحركون أقلامهم بدل ألسنتهم، أصبحوا يلجؤون إلى الصمت.
وها هي كل الصحف تعزف نفس الألحان، وتتشعبط في نفس الأردية(…) بعد أن أصبحت ظاهرة الصمت، مفروضة من طرف القوى المستفيدة من الصمت، والتي أصبحت تفرض الصمت الذي لا يمنع الهدرة(…) وإنما يتضايق من الكتابة، وها هو الصحفي عبد الله الدامون واحد من أقطاب الكتابة الصحفية، يكتب داعيا إلى الإضراب الجماعي عن الكتابة: ((إننا تعبنا من مزاولة هذه المهنة الصحافية نفسها، في بلد ينافق نفسه، ويسمي الصحافة سلطة رابعة، ليعرف المغاربة درجة حمق عدد من مسؤولي ومنتخبي هذه البلاد)) (المساء 21 نونبر 2015). ألم نذكركم في العدد الماضي بحكمة الطبيب جليل بناني الذي قال: ((إن غياب تواجد حدود للنفوذ يتسبب في فقدان العقل)).
أبعد من الدامون، ذهب عبد الحميد الجماهري رئيس تحرير جريدة الاتحاد الاشتراكي، ليعلن إضرابه عن الكتابة، بعد أن منع رئيس حزب المهدي بنبركة، الاشكر، من نشر خبر عن احتفال بذكرى المهدي بنبركة نفسه.
والواقع أن الكتاب الصحفيين الذين يدعون إلى الإضراب عن الكتابة، إنما يعلنون التحاقهم بملايين المغاربة الذين اختاروا الصمت.. ولازال سادتنا يفرحون لهذا الصمت، إن لم تكن أجهزتهم السرية والعلنية، هي التي أسهمت في توسيع رقعة الصامتين، عبر المخطط المدروس والناجح(…) لتحويل الأحزاب السياسية، وقد أنشئت لتجميع الجماهير وتأطيرها، إلى قوقعات فارغة، تأخذ المناصب وميزانيات الدعم مقابل صمتها، وكأني بواحد من محركي المخطط يقول بلهجته الأمازيغية: ((ايدي إيتاغن أزار اتبين)) يعني ((الكلب الذي ينبح لا يعض)) رغم أن إحجام الكلب عن النباح وصمته.. يجعله مصدر الخطر.
فبعد أن صوت منتخبو المغاربة في انتخابات 2007، كان عدد المشاركين في الانتخابات خمسة عشر مليون مصوت، رأيناهم في سنة 2011 ثلاثة عشر مليون فقط، ليظهر في الإحصائيات الرسمية أن نسبة المتغيبين عن التصويت الصامتين إذن بلغت سبعين في المائة، وفي الانتخابات الأخيرة سنة 2015، كانت نسبة المشاركة 53 في المائة حسب وزارة الداخلية(…) لتقسم الصبر، ويبقى تفوق الصامتين عن الانتخابات المغربية يقارب الخمسين في المائة.
فمن أين يستمد هؤلاء القابعون الصامتون من المنتخبين في مجالس المغرب وبرلمانه، هذه المشروعية التي تحضر النقاش في موضوع التعويضات وحتى التقاعد، حتى إذا ما عرض استفتاء إلغاء البرلمان والانتخابات، فإنه سيحصل على الأغلبية المطلقة.
أم أن التزام المغرب دينيا بالإمام مالك هو الذي يدعو المغاربة إلى الابتعاد عن السياسة، عملا بقول الإمام: ((لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه)).
أم نسينا أن معارضة واحدة من أقوى الدول المغربية، المرابطون، وكانوا يحكمون المغرب والأندلس، سبقوا الشيخ عبد السلام يس، إلى اعتبار الصمت أنجع وسيلة لإسقاط النظام.. بعد أن بدأ المرابطون ممارسة ما يشتكي منه مرابطو الصحافة المغربية الآن. ((يلجمون كل اختلاف في الرأي، وبدؤوا حتى في مصادرة كتاب الإمام الغزالي، ومنع حركة إخوان الصفا))، كما كتب التاريخ وأضاف بوضوح: ((بعد الغلاء.. والجوع، قام المتصوفة أيام المرابطين بمحاولة إعادة التوازن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في كل المجالات، وتبنوا معارضة تراوحت بين المعارضة الصامتة(…) ثم المعارضة التي نهجت أسلوب العنف والثورة(…) مما ساهم في خلخلة النظام المرابطي، والتمهيد لسقوطه وحكم الموحدين)) (المغرب والأندلس. د. إبراهيم بوتشيش).
تعبير المعارضة الصامتة التي مهدت لسقوط الدولة المرابطية، تعبر عنه الأجيال الحاضرة بحليف الصمت الذي هو الإضراب، وأبلغ منه معنى، الإضراب عن الطعام.
وربما حتى قبل مبدعي ظاهرة المظاهرة أو الإضراب، كارل وماركس، فإن المغرب، ربما كان هو السباق لاستعمال الإضراب، وسيلة للضغط المعارضاتي.
فقد اهتزت عروش العلماء الكبار، ابن خلدون والمقري، لظاهرة إضراب عن الطعام في المغرب مهدت لإسقاط دولة المرينيين، رغم أمجادها وإنجازاتها.
فبينما الملك العظيم أبو الحسن المريني، في بناءاته وإنشاءاته، أخبروه بأن سيدتين مغربيتين محتجبتين أضربتا عن الطعام، في الوقت الذي غنى فيه أحد الشعراء المرينيين:
لا بأس بالغالي إذا قيل حسن
ليس لما قرت به العين ثمن
((فقد كتب ابن خلدون، أن سيدتين في مملكة أبي الحسن المريني، أضربتا عن الطعام احتجاجا على الأوضاع ماتتا رغم محاولات الحكومة إنقاذهما وذكرهما أيضا الشيخ المقري، وكانت واحدة منهما تمتنع عن الأكل وتبرر موقفها بأنها عندما تنام يأتيها من يطعمها)) الاستقصا).
أما الضربة القاضية التي تلقاها الملك المريني أبو عنان من التيار الإسلامي الصامت، فقد كانت عندما أراد التشرف بزيارة أحد كبار الأقطاب الدينيين بسلا، سيدي بنعاشر الذي كان منعزلا في محرابه، وتوجه الموكب إلى باب مقر الشيخ لولا أن الشيخ رفض استقبال الملك، فقد كان يعرف موقف الرأي العام منه، واكتفى بأن وجه إليه رسالة تاريخية، ما إن بدأ الملك المريني يستوعبها ويتمعن في تعابيرها حتى سقط نظامه.