مهما قيل وأعيد عن عميد المسرح العربي الفنان الراحل يوسف وهبي، فلن يستطيع أحد أن يوفيه حقه بشكل كامل عن كل ما قدمه للساحة الفنية العربية، ولقب عميد المسرح يجب أن يمتد للسينما. فطالما أتحفنا يوسف وهبي بأدوار سينمائية قل نظيرها، حيث كان يؤديها بطريقة خاصة به تجعل الجمهور متسمرا أمام الشاشة حتى لقطة النهاية.
ويوسف وهبي هو سليل عائلة مصرية كبيرة جدا فوالده هو عبد الله باشا من أهم شخصيات مصر، وقد دخل الفن بعد صراع مع عائلته التي كانت تريد له مستقبلا سياسيا لامعا.
لقد التقيت يوسف وهبي في سنة 1954 في مطلع حياتي العملية، حيث أجريت معه حوارا صحفيا لمست خلاله عظمة شخصيته وقوة حضوره، وكان ذلك عندما جاء إلى بغداد رئيسا للفرقة القومية المصرية مصحوبا بعدد من كبار النجوم آنذاك ومنهم محمد توفيق، وشكري سرحان، وأمينة رزق، كما كانت معه في تلك الرحلة زوجته سعيدة هانم وابنتها من زوج آخر. وكانت الابنة فتاة رائعة الجمال في العشرين من عمرها، خضراء العينين، شقراء الشعر، ولها نظرات تفتك بألف رجل ورجل. جلسنا نحن جميعا على نفس المائدة لتناول طعام الغذاء بأحد أشهر مطاعم بغداد، وكانت الشابة تبدو كئيبة وحزينة رغم جمالها الأخاذ وشبابها الريان. كنا نتجاذب أطراف الحديث في غياب تام من الفتاة الشابة التي شعرت وأنها تعاني من غدر حبيب، وبعد مدة نسجت معها علاقة صداقة، حيث صارت تتصل بي باستمرار وتحكي لي كل شيء، وذات مرة تجرأت وسألتها عن سر كآبتها الدائمة قائلا لها: “لقد منّ الله عليك بكل شيء: الجمال، الشباب، والمال، والعائلة الراقية، فلماذا تبدين حزينة على الدوام؟ ماذا ينقصك في هذه الحياة؟” فقالت لي: “أنا حزينة وأعاني من جرح في قلبي لن يندمل أبدا، وهذا الجرح جعل حياتي عبارة عن جحيم حقيقي”.
سألتها: “أرجوك أن تحكي لي كل شيء وأعدك بأنني لن أكشف سرك أبدا، ولن أبوح لأحد بكلمة واحدة حول مشكلتك”، قالت لي، وقد انهمرت الدموع من عينيها الفاتنتين: “لا أستطيع… لا أستطيع وكل ما أستطيع قوله لك هو أنني كرهت هذه الحياة، وأتمنى مغادرتها قريبا وقريبا جدا”.
وافترقنا بعد ذلك، حيث سافرت الحسناء الحزينة مع الفرقة المصرية نحو بيروت لإحياء بعض الحفلات هناك، وبقيت أنا في بغداد في عملي وحواراتي الصحفية.
وكانت صدمتي كبيرة بعد يومين فقط على سفرها، حيث سمعت بفاجعة وفاتها بسبب سقوطها من شرفة فندق “سان جورج” في بيروت الذي كانت تقيم فيه عائلة يوسف وهبي. كان الخبر صاعقا بكل المقاييس، خاصة بعد انتشار خبر مفاده بأن الشابة انتحرت لأنها كانت على علاقة غير شرعية مع زوج والدتها، يوسف وهبي، وأنها كانت حاملا منه، فخافت من الفضيحة وهربت من هذا العالم بأكمله نحو العالم الآخر. ولكن الله حق، وقد أوصى عباده بقول الحق، فأنا شخصيا وطيلة عشرتي مع عائلة يوسف وهبي لم ألاحظ شيئا من هذا، فقد كان يدللها مثل الطفلة ويناديها بلقب “ابنتي”، لهذا فقد كنت مقتنعا بأن كل ما راج بعد وفاة الفتاة كان مجرد شائعات خالية من الصحة، وحتى إذا كانت قد انتحرت فعلا فلا شك أنها قد فعلت ذلك بسبب رجل آخر وليس زوج والدتها يوسف وهبي.
وبعد ستة أشهر تقريبا سافرت إلى القاهرة، وكانت أول زيارة لي إلى بيت يوسف وهبي، وكان معي الصحفي الكبير الراحل، الأستاذ عبد الشافي القشاشي الذي كان صاحب ورئيس تحرير مجلة “الفن” التي كانت أكبر مجلة في مصر، وقبل دخولنا إلى بيت يوسف وهبي، همس الأستاذ القشاشي في أذني قائلا: “أرجوك ألا تتطرق لموضوع انتحار ابنة زوجته فهو منهار تماما، فقد كان شديد الارتباط بها، وهي التي كانت ترتب له ملابسه وتقدم له طعامه وتداعبه باستمرار، لقد كانت مصدر فرحته الوحيد” فسألته: “وهل صحيح أنه كان يعشقها وكانت تعشقه كرجل وامرأة؟” فانتفض الأستاذ القشاشي غاضبا وقال لي:” كيف صدقت هذه الشائعات المغرضة والمشينة. يوسف وهبي لم يعشق في حياته سوى امرأة واحدة هي زوجته السيدة سعيدة هانم، وابنتها كانت بمثابة ابنة حقيقية له”، ثم تنهد قائلا: “أستغفر الله العظيم، ما هذا، وكيف وصلت النذالة بالناس لهذا الحد.. المساس بسمعة فتاة صغيرة رحلت عن هذا العالم بطريقة بشعة”. وفعلا دخلنا معا على يوسف وهبي وحاولنا إثارة عدة مواضيع معه، ولكنه كان شاردا وتائها عن كل ما كنا نقوله، فبادرني قائلا والدموع تنهمر من عينيه مثل المطر: “لقد انتهيت يا رمزي، انتهيت بعد أن فقدت أعز إنسانة عندي: ابنتي”، فربّتت على كتفيه وحاولت أنا والأستاذ القشاشي التخفيف عنه طيلة الوقت الذي قضيناه معه. وبعد سفري عائدا إلى بغداد، كنت أتابع أخباره فعلمت بأنه تغير تماما وصار إنسانا يائسا لا طموح له ولا رغبة له في الحياة، وهكذا قضى ما تبقى له من سنوات حزينا حتى رحل عن هذا العالم بسبب سكتة قلبية مفاجئة باغثته وهو تحت العلاج من سقوط حدث له في الحمام.
وأعود لسرد قصة حياة يوسف وهبي، حيث رأى النور يوم 14 يوليوز 1898 في مدينة الفيوم، التي تقع في جنوب القاهرة، من عائلة أرستقراطية من علية القوم ومن ذوي الشأن المادي والأدبي في مصر كما ذكرت، وبدأ تعليمه في كتّاب العسيلي بمدينة الفيوم، ثم انتقل إلى المدرسة السعيدية حتى التحق بالمدرسة الزراعية في القليوبية، وتميز الفنان الراحل منذ صغره بإلقاء المونولوجات وأداء التمثيليات بالنادي الأهلي والمدرسة، إلا أن شغفه بالتمثيل ازداد بعدما شاهد فرقة الفنان سليم القرداحى في سوهاج، مما دفعه إلى العمل بالسيرك، الأمر الذي اعتبره والده وصمة مشينة من العار وقام بطرده من المنزل محاولاً إصلاحه من خلال إلحاقه بالمدرسة الزراعية، ولكنه لم يستجب وهرب إلى إيطاليا لدراسة المسرح. وهناك أتقن فنون التمثيل بطريقة راقية ثم عاد إلى مصر في سنة 1921 وذلك على إثر وفاة والده، فحصل على نصيبه من الميراث ليبدأ مرحلة جديدة في مشواره الفني بإنشاء فرقة مسرحية خاصة “فرقة رمسيس”، والتي حرص من خلالها على تقديم شيء مختلف عما يقدمه مشاهير المسرح في ذلك الوقت، حتى أُطلق عليه لقب “رسول العناية الإلهية الذي سوف ينهض بالفن المصري”.
وتوالت أعماله الفنية بنجاح منقطع النظير جعل الملك فاروق يمنحه رتبة البكوية بعد مشاهدة الملك لفيلم “غرام وانتقام”، كما نال وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى في سنة 1960، وجائزة الدولة التقديرية في سنة 1970، بالإضافة إلى انتخابه نقيبا للممثلين في سنة 1953 ومستشارا فنيا للمسرح بوزارة الإرشاد، كما حصل أيضا على جائزة الدولة التقديرية والدكتوراه الفخرية في سنة 1975 من الرئيس المصري أنور السادات، ومنحه بابا الفاتيكان وسام الدفاع عن الحقوق الكاثوليكية، ليكون بذلك أول مسلم يحصل على هذه الجائزة. وفي 17 أكتوبر سنة 1982 توفي يوسف وهبي بعد إصابته بكسر في عظام الحوض نتيجة سقوطه في الحمام، وكان سبب وفاته هو سكتة قلبية مفاجئه أثناء تلقيه العلاجات، وهكذا انطوت صفحة فنية جديرة بالتقدير من طرف الأجيال القادمة.
وبرغم التراجيديا التي اتسم بها الفنان يوسف وهبي في قصص الحب والعطاء النادرين على شاشة السينما، إلا أن الواقع كان مختلفا عن ذلك تماما، فقد كان قلبه كبيرا يتسع للمئات من النساء، فهو مثل كل فنان له نزوات ومعجبات ومشاكل كثيرة وكانت زوجته التي أحبها كثيرا، السيدة سعيدة منصور، تتجاهل ذلك وتصفح وتنسى لأنه كان يعود دائما نادما مستغفرا.
وعلاقات وهبي النسائية لم تكن الشيء الوحيد الذي أتعب زوجته، بل كان هناك شيء أكثر إيذاءً لروحها، وهو إدمانه لعب «البوكر» وسباق الخيل وخسائره الفادحة التي بدد فيها أمواله في سنواته الأخيرة.
وبحسب ما نقلت الكاتبة لوتس عبد الكريم في كتابها عن يوسف وهبي، أنها سافرت معه وزوجته سعيدة إلى أماكن كثيرة في سويسرا وفرنسا ولبنان وإنجلترا، وذهبت معها لترى يوسف وهبي في حلبات السباق من باب الفضول، فكان لا يمل من لعب القمار والرهان في سباقات الخيل والكلاب، وكانت تراقبه وهو يخسر الجولة بعد الجولة، ثم يكسب، ثم يخسر، إلى أن يخسر كل ما معه، ويلعب بأموال زوجته.
وفى سنوات عمر وهبي الأخيرة، كان لا يملك شيئا من الثروة الكبيرة التي حققها، فكانت ثروة زوجته هي التي حفظت له مظهره، حتى آخر يوم من حياته.