الحقيقة الضائعة

الحـقــيقة الضــــائعة | جذور الصراع الذي دفع الملكية إلى القضاء على الأحزاب – الحلقة الثانية

يلتقي المحجوبي أحرضان في مذكراته، مع المؤرخ الفرنسي الذي عايش نفس الظروف، جورج سبيلمان، وكان ضابطا عسكريا فرنسيا جمع هو أيضا مذكراته عن استقلال المغرب، ليعطي أحرضان وسبيلمان، ما يكفي من التفاصيل عن الاتفاق الشبه الإجماعي، لسياسيي ذلك الزمان المتحالفين، حزب علال الفاسي وحزب الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة.. وكان الحزبان معا.. والآخرون، متفقين جميعا، على مبدإ منع الملك محمد الخامس، من الرجوع إلى المغرب.

أحرضان يقول: ((المهدي بنبركة كان يقتدي بنموذج الحبيب بورقيبة الذي أتقن دوره في إبعاد باي تونس، فأراد حزب الاستقلال أن ينسف بكل الوسائل، تواجد النفوذ الملكي)) (مذكرات أحرضان).

ليأتي كاتب آخر، أكثر أهمية في ذلك الزمان من أحرضان، وهو رئيس الحكومة الفرنسية “إدكار فور”، الذي كان في ذلك الوقت مهوسا بالهيمنة الإسلامية(…) التي قد تخلف الاستعمار الفرنسي في المغرب وتونس والجزائر، خصوصا وأن محمد الخامس كان يحمل الشعارات الإسلامية، المرتبطة بإمارة المؤمنين، فذهب يستشير الحبيب بورقيبة، في مصير محمد الخامس.

وخلال مأدبة عشاء مع بورقيبة، في قصر “لا سيل سان كلو”، وقبل رجوع محمد الخامس لفرنسا من المنفى، يسأل إدكار فور، ضيفه بورقيبة عن ما يراه للتعامل مع محمد الخامس، ليقول بورقيبة:

((إنه ليس عندكم في المغرب، بورقيبة، عندكم محمد الخامس، وكفى، ولكني أرى من الأحسن، أن تتعاملوا مع شخص من الشعب بدل التعاون مع القصر والرجعية(…) أنا أستعد لإعلان الجمهورية ولكن في المغرب، مازال الوقت لم يصل، ولابد لكم من الوقت غير المحدد، للاحتفاظ بالملكية)) (مذكرات إدكار فور).

إدكار فور نفسه وبعد اتصالات مع حزب الشورى والاستقلال خرج باستنتاج ((أن حزب الشورى حزب جمهوري)) (نفس المصدر).

ويرجع  أحرضان كثيرا إلى شهادات صديقه الفرنسي سبيلمان الذي خرج بنتيجة واحدة: ((كل الذين حاورتهم من المغاربة، أكدوا لي أنهم، لا يريدون أن يكون إعطاء الأسبقية لرجوع الملك محمد بن يوسف إلى عرشه، وأذكر أني في هذا الوقت، توصلت برسالة واحدة مؤيدة لرجوع الملك، أمضاها تونسي اسمه صالح رشيد)) (كتاب من الحماية إلى الاستقلال. سبيلمان).

وكان وقتها المستشار الاستقلالي الكبير، الزغاري، مسموع الكلمة في فرنسا ويسميه أحرضان، مندوب الاستقلال في فرنسا، وسمعه يقول بصيغة الراغب في إقامة المؤسسات(…) قبل رجوع محمد الخامس: ((أبدا.. لن يرجع محمد الخامس إلى العرش في الوقت الراهن، لأنه علينا أولا أن نقرر في شأن المؤسسات.

وقد رفع حزب الاستقلال مذكرة إلى الحكومة الفرنسية تقول: مهما كانت أهمية قضية العرش، فإن هذه ليست في الواقع إلا قضية جانبية)) (مذكرات أحرضان).

((وتحت عنوان: اتفاق كامل بعد أن اجتمع المقيم العام “كرانفال” مع أقطاب الحزبين، الشورى والاستقلال، والمسؤولين المغاربة الآخرين(…) على إرجاع الملك محمد الخامس، ليستقر نهائيا في فرنسا)) (مذكرات إدكار فور. الجزء الثاني).

وكان أحرضان، وعبر ارتباطه بجيش التحرير، المساند الوحيد لرجوع الملك، ويفهم من كلام أحرضان أنه كان جيشا مشتتا متمركزا في أكنول بالريف، يشعر بعد رجوع الملك إلى عرشه رغم المناورات، أن الأحزاب السياسية وخاصة بعد تصفية حزب الشورى والاستقلال، وبعد اغتيال رئيس جيش التحرير عباس المسعدي ومحاولة اغتيال عبد الهادي بوطالب ((الذي أنقذته يوم كنت عاملا على إقليم الرباط، وتوجهت على عجل إلى سوق أربعاء الغرب، حيث حدثت مجزرة في الشوريين، أنقذت من الموت، الأخوين عبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة، وكان قد تم تحضيرهما لإحراقهما بعد أن اختفوا في إحدى الحافلات)) (نفس المصدر).

كان أحرضان كلما التقى بالمهدي بنبركة، يقول له هذا الأخير: “إنها الثورة تأكل أولادها” ويضيف له بالفرنسية “لا يمكن أن نصنع الأومليت بدون كسر البيض”،

فيشعر بأن الملك محمد الخامس، يظهر في موقع الضعف.

((تصوروا الملك محمد الخامس – يحكي أحرضان – يستدعي أحرضان، عامل الإقليم، وبحضور ياووره الخاص الجنرال مولاي حفيظ، يقول له محمد الخامس: أمس أردت تعيين الشريفين، مولاي عبد الحميد في باشوية القنيطرة، ومولاي الحسن بن دريس في مكناس، وهاد الناس(…) يعترضون ضد رغبتي)).

لا ينسى أحرضان أن يكشف، أنه قبل “الكاب آن” الذي كان أداة للتعذيب أيام أوفقير، بسنوات، وقبل الديسطي التي نعرفها الآن(…) أسسوا عندما كان الاغزاوي مديرا للأمن، جهازا بوليسيا خاضعا لحزب الاستقلال، اسمه “لابريكاد رقم 9” لقد كان رئيس الحكومة البكاي، يتجرع المرارات وحزب الاستقلال يتصرف كالسيد المطلق.

ويحكي أحرضان جزئية عاشها، وكأنها صورة من حكايات “المافيا”، أحسن أحرضان بالتذكير بها، ويتعلق بالمناضل الجزائري بوزار (انظر الأسبوع عدد 21 نونبر 2013) ((اجتمع الفقيه البصري والمهدي بنبركة بالوزير في الداخلية إدريس المحمدي بحضور العامل أحرضان ليقول له الفقيه البصري: لماذا لا تريد أن تسلمنا بوزار.. لنكن صرحاء، يجب أن نضع حدا، لهذه العناصر، ليقول المهدي بنبركة: يجب أن نسلم بوزار لمحكمة الشعب، ويجيبه الوزير إدريس المحمدي كيف تريدون أن أسلمكم شخصا معتقلا عندي، فهل تظنون أن الناس لن يسمعوا بقتله؟ ليقول له المهدي، نحن لا نريد أن تسلمه لنا، نريد فقط أن تنقله من سجن إلى سجن، وأنت تعرف أن الاختطاف أصبح أمرا جاريا به العمل، إن مهمتنا أن نقبض عليه، فللحزب الإمكانيات الكبيرة لمسح آثار هذا الجزائري، الذي كان عليه أن يبقى في بلده الجزائر، بدل أن يصبح رئيسا لجيش التحرير المغربي.. وينتهي اجتماعنا في منتصف الليل ويقرر المحمدي نقل بوزار عبر طريق الدار البيضاء(…) لأقول وأنا مع المحمدي وحده: هل يسمح لك شرفك بأن تسلم أحد المعتقلين، وتعرضه للاغتيال وتورطني في هذه العملية، ليقرر المحمدي وزير الداخلية تهريب بوزار ليلا، إلى معتقل في بولمان دادس)) (نفس المصدر).

أكيد أنها صورة غير مشرقة، للأوضاع التي كانت عليها حالة المغرب في أوائل الاستقلال، حيث كان هذا الحزب، قد بلغ حد الحديث عن محكمة الشعب، لتقتل رجلا جزائريا، كان من مؤسسي جيش التحرير الذي ساهم في تحرير المغرب.

الواقع، أن الحزب الأكبر في المغرب، كان قد فوجئ برجوع محمد الخامس، فيم كان ولده وولي عهده مولاي الحسن يتتبع هذه الأوضاع، ويحضر الجيش الملكي لمواجهة هذه المؤامرة الكبرى، بعد أن سمع تفاصيل الحديث الذي دار بين المسؤول الفرنسي “إدكار فور”، وبين المسؤول الاستقلالي عبد الرحيم بوعبيد، تفاصيل كتبها إدكار فور في مذكراته: ((عبد الرحيم بوعبيد لم يخف أن هناك اتجاهات كبرى لخلق تنافس بين القوات السياسية، غير العسكرية(…) تدعونا للتحرك العاجل(…) حتى لا تتكثل القوة العسكرية مع الملك محمد الخامس، لأنه آنذاك فإن القوات الثورية ستكون أقلية معزولة)) (إدكار فور. مذكرات).

لنفهم ما لم يحكه أحرضان، كيف استخلص الحسن الثاني الدرس من كل هذه المخططات الحزبية، ليتعامل مع هذه الأوضاع وقد أصبح ملكا، ليرد لهذه الأحزاب، الصاع صاعين، ويضربها بعنف، وبدأ يتحرك، حتى عندما كان أبوه محمد الخامس لا زال حيا، وأثناء حكومة الدفعة الثانية لحزب الاستقلال، في شكل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عندما أصبح عبد الله إبراهيم رئيسا للحكومة، فإن ولي العهد لم ينتظر المزيد من التنازلات، من طرف أبيه محمد الخامس وطلب ولي العهد مولاي الحسن عدة مرات أن يعلن الملك محمد الخامس إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، ورفض الملك محمد الخامس، ولكن: ((وفي 18 مايو 1960، أدخل مولاي الحسن رتلا من الدبابات إلى داخل القصر الملكي، حيث يتواجد سكن الملك، ومكاتب رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم، في شكل انقلاب عسكري الشيء الذي أزعج الملك محمد الخامس الذي أمر بسحب الدبابات، وفي 20 مايو 1960 صدر بلاغ بأن جلالة الملك قرر وضع حد لحكومة عبد الله إبراهيم)) (روجي موراتي. مقتل بن بركة).

وكانت بداية هذا المخطط المدروس، الذي بلغ أوجه عندما أصبحت الأحزاب السياسية كلها، أعجز من أن تلعب أي دور لدرجة أصبحت معها بعض الأحزاب، تباع لمن يشتري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى