المنبر الحر

المنبر الحر | عندما كادت أن تشتعل حرب بين العلويين وآل بنسودة بسبب “طباخ” المستشار

بقلم. رمزي صوفيا

    يعتبر الأستاذ أحمد بنسودة، مستشار الراحل العظيم الحسن الثاني ومدير ديوانه، من أكبر الشخصيات السياسية التي عملت مع الملك الراحل، حيث تميز مساره بدهاء سياسي وحكمة كبيرين.

وقد ولد في مدينة فاس في سنة 1920، وفيها تتلمذ على يد كبار علمائها ومفكريها، حتى تشبع بالفكر العربي والإسلامي الحداثي إضافة للدراسات العصرية التي جعلت منه قلما ذكيا خلف للخزانة المغربية والعربية عدة مؤلفات وأشعار إلى جانب كتاباته السياسية.

وقد عرفت الراحل الأستاذ أحمد بنسودة عندما كان سفيرا للمغرب في لبنان،

حيث استطاع بلباقته وكياسته أن يخلق علاقات قوية بكل الأوساط السياسية والاقتصادية وخاصة الصحفية، حيث جعل كبار الصحفيين وأعظم الأقلام يكتبون عن المغرب الشيء الكثير، وعلى رأسهم الراحل سليم اللوزي، صاحب مجلة الحوادث الذي دفع حياته ثمنا لقلمه الجريء، وملحم كرم، نقيب المحررين اللبنانيين وصاحب جريدة البيرق اليومية ويومية فرنسية إضافة لمجلة ألف ليلة وليلة. وكانت كل كتاباتهم تصب لصالح المغرب وتدافع عن مصالح المغرب وذلك بفضل الشخصية المؤثرة والدهاء السياسي واللباقة الدبلوماسية التي كان يتمتع بها صديقهم وسفير المغرب في بيروت آنذاك الراحل أحمد بنسودة. وهكذا انضممت بدوري إلى مجموعة الصحفيين المدافعين عن المغرب وذلك في كل المجلات والجرائد التي كنت أكتب بها. وفي عام 1975، تلقت جريدة السياسة الكويتية التي كنت أعمل بها دعوة من المغرب للمشاركة في المسيرة الخضراء.

فاقترح علي الأستاذ أحمد عبد العزيز الجار الله أن أمثل دار السياسة في هذا الحدث التاريخي والسياسي الكبير. فلم أتردد في حزم حقائبي والتوجه نحو المغرب. فكان أول مسؤول استقبلني في المغرب هو الأستاذ أحمد بنسودة، فوجدت منه كل المساعدة والترحيب حيث سهل مهمتي بحسن وفادته وطيبوبته المعهودة.

وبعد المسيرة الخضراء توطدت علاقتي بالأستاذ أحمد بنسودة وأصبحت من أصدقائه حيث كنت غالبا ما أتواجد على مائدة الغذاء أو العشاء ببيته العامر في الرباط. وكانت كل الأطباق المغربية اللذيذة من إعداد السيدة حرمه الكريمة. وعندما كنت أشيد بالأكلات المقدمة على مائدته حكى لي عن قصة وقعت له مع الأمير الراحل مولاي عبد الله، شقيق الحسن الثاني رحمهما الله، حيث قال لي” ّذات يوم دعوت سمو الأمير مولاي عبد الله وحرمه الأميرة لمياء الصلح لتناول طعام الغذاء. وبعد الانتهاء من ذلك، التفت الأمير إلي وقال لي: يا السي أحمد أريد منك شيئا”. فأجبته فورا: “أمرك مطاع يا سمو الأمير”. فقال لي الأمير مولاي عبد الله: “أطلب منك أن تعطيني الطباخ الذي يعمل في بيتك”. فانتفضت مصدوما، وقلت للأمير: “سيدي، إن آل بنسودة قد خدموا العرش العلوي منذ زمن بعيد، وأنا مخلص للعرش العلوي حتى النخاع، ولكن إذا أصررت سموك على أخذ طباخ منزلي فستقوم حرب كبرى بين العلويين وبني سودة لأن الطباخ هو زوجتي”. فضحك الأمير وزوجته حتى كادا يغشى عليهما من شدة الضحك. وصارت زياراتهما متكررة إلى بيت بنسودة.

وذات يوم كنت أجالسه خلال ظهيرة أحد أيام الصيف، فسألته: “أرجو منك أن تحدثني عن قصص ووقائع حدثت لك مع الحسن الثاني”. فقال لي مبتسما: “يا رمزي، إنك تسألني عن حياتي كلها بهذا السؤال، فعلاقتي بالحسن الثاني وخدمتي للحسن الثاني هي محور حياتي، ولكني سأحكي لك بعض القصص الهامة التي عشتها وصمت قليلا”، ثم تابع حديثه قائلا لي: “لقد كانت جل المهام التي كان يسندها لي الملك الحسن الثاني حساسة، ولكن الله كان يساعدني في قضائها على أحسن وجه. وأذكر أنني ذهبت ذات مرة إلى المملكة العربية السعودية، فقابلت الملك الراحل فيصل. وبعد حديث دار بيني وبينه وبطريقتي الخاصة تمكنت من جعله يصدر أمره على الفور بتقديم شيك بمبلغ 300 مليون دولار هبة من المملكة العربية السعودية إلى المملكة المغربية. وبعد استلامي للشيك موقعا، اتصلت على الفور بالملك الحسن الثاني وأخبرته بذلك وصوتي يرتعش من فرط فرحتي. فقال لي بالحرف: إهدأ قليلا يا بنسودة واقرأ لي الأرقام التي في الشيك بالتدقيق وبعدد الأصفار”. وكانت تلك من المهام التي لن أنسى فرحتي بإنجازها ما حييت يا رمزي”.

وقد  حكى أحد متابعي سيرة الرجل أن أصعب مهمة كلفه بها الملك الحسن الثاني في عام 1982 همت توجيه الدعوة إلى قادة عرب للمشاركة في الشطر الثاني من قمة فاس، التي علقت بعد الجلسة الافتتاحية لقمة فاس الأولى، وكان عليه إقناع كل من الرئيسين السوري حافظ الأسد والعراقي صدام حسين بالمشاركة في تلك القمة، التي التأمت على خلفية لاءات الخرطوم الثلاث. وبالقدر الذي بدا فيه صدام حسين متحمسا للمشاركة، اختار غريمه التاريخي في حزب البعث سياسة التردد. لكن أحمد بنسودة أقنعه بأن قمة تتخذ قرارات تاريخية يغيب عنها الرئيس الأسد ستكون ناقصة.
عرف عن الأسد وقتذاك أنه كان شديد المراس وكان مفاوضا صعبا ينهك محاوريه في جلسات تدوم ساعات يمسك خلالها عن الكلام، وإذا شرع في الحديث كان ذلك مؤشرا على أنه سيطول ساعات. بيد أن أحمد بنسودة بدهائه وذكائه استطاع أن يقنعه، واستخدم من أجل ذلك ملكة الإقناع، حين اختار البقاء في قاعة الاستقبال وأقسم ألا يغادر قصر العُلويين ألا وهو يحمل موافقة الأسد.

ولا زلت أذكر وكصحفي متابع للقضية الفلسطينية ودعم المغرب عندما حضر الأستاذ بنسودة والوفد المرافق له اجتماعا ضم الدول المغاربية بحضور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ففوجئ الجميع بياسر عرفات وهو يحتضن زعيم مرتزقة البوليساريو محمد عبد العزيز ويقبله بحرارة. فما كان من بنسودة إلا أن انتفض واقفا ومعه الوفد المرافق له، فغادر قاعة الاجتماع دون أن يلتفت وراءه وهو في قمة الغضب. ويومها لن تنسى كل الفصائل الفلسطينية كيف أغلق الحسن الثاني الباب في وجه كل ما يرتبط بالقضية وقاطعها حتى جاء عرفات بنفسه إلى المغرب طارقا أبواب الحسن الثاني ومقدما اعتذارا علنيا للمغرب.

وقد كان الحسن الثاني يثق فيه ثقة كبيرة. وقد قال لي: “أحيانا كنت أحمل معي ملفا مهما. وعندما أفتش عنه، أجده في الغولف الملكي وهو يزاول رياضته المفضلة. فأتقدم نحوه بالملف، فيقول لي : “انصرف الآن واتركني أزاول رياضتي. لكني كنت أصر على البقاء وراءه حتى يطلع على الأوراق. وبمجرد قراءة جلالته لبداية الملف، يتوقف عن الرياضة ويقول لي اتبعني إلى القصر فورا اعتبارا لأهمية هذا الملف”. وقد وقعت هذه القصة مرارا وتكرارا معي، لهذا كان الملك يثق بي لأنه يعرف مدى إخلاصي للعرش العلوي ولشخصه بالذات”.

لقد كان بنسودة فقيها وعلامة ومحدثا وعندما كنت أجري معه أي حوار فإني كنت أضع مسجلتي لأحتفظ بحديثه كاملا لما كان يحفل به من غزير العلم ووافر الاطلاع ولباقة الكلام والحكمة والبيان رحمه الله. كما كان وطنيا غيورا ومغربيا كريما حتى أبعد الكرم، حيث كان بيته مفتوحا في كل يوم لاستقبال القادمين من كل جهات المغرب لقضاء حاجة أو طلب مساعدة، فكان بنسودة لا يرد أحد ولا يحرم مستضعفا. كان يستقبل المحتاجين والفقراء بنفسه وأنا شاهد على هذا. لقد كانت أخلاقه سمحاء ونفسه مليئة بالطيبوبة والكرم والتفاؤل.

رحم الله هذا الرجل العظيم، وجعل مثواه الجنة لما قدمه لوطنه ولبني وطنه وللعرب جميعا من خدمات جليلة بفضل تربيته العالية وكياسته وحسن تصرفاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى