إن الانتقال من التفكير في ما أنتجه المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري إلى التفكير في الطريقة التي أنتج بها، يجعلنا أمام ضرورة تحديد البنية الفكرية لهذا المفكر.
فالمتتبع للفكر الذي خلده الجابري بدءا من كتابه “نحن والتراث” وشروعه في “نقد العقل العربي”، وصولا إلى “فهم القرآن” يدرك أن البنية الفكرية للجابري تتحدد في طابعها العقلاني، فقد عمل على التأسيس والانتصار لحركة عقلانية استمدت جذورها من عقلانية ابن رشد، بعد دراسته دراسة دقيقة جعلته يقول بأن الفكر الرشدي حقق قطيعة إبستمولوجية مع الفكر السينوي.
لقد حدد مسار فكر الجابري منذ تطلعاته الأولى للتراث وبالتحديد عند دراسته لابن خلدون، انشغاله بهاجس أساسي وهو المتمثل في كون التأويلات المعاصرة والمتعددة لابن خلدون تجعله بعيدا عنا، لذلك اعتمد الجابري على منهج يرتكز على العودة إلى النص، وهو نفس المنهج الذي سيطبقه في دراساته اللاحقة: سواء على الفارابي، أو ابن سينا، أو ابن رشد.. إذن، كان للمنهج التاريخي مكانة مهمة في توجيه فكر الجابري، فقد تعامل مع التراث باعتباره يساعد على فهم الحاضر؛ أي أننا نقرأ التاريخ لفهم الحاضر وليس الماضي.
اعتمد الجابري مناهج علمية أخرى ساعدته على ضبط القول في مختلف قضايا التراث، وكذا قضايا وإشكاليات الفكر العربي المعاصر.
وبما أن الجابري كان عقلاني، فإنه قام بالاحتفاظ في التراث العربي الإسلامي بكل ما يندرج داخل المعقول العقلي والمعقول الديني وألغى اللامعقول العقلي واللامعقول الديني، وذلك ليصون عقلانيته وحتى لا يقع في التناقض. ففي مختلف مراحل تفكيره كان حريصا على معاداة كل ما يتأطر ضمن اللامعقول، ومؤيدا لكل ما يتأطر ضمن المعقول. وبناء على الضبط المنهجي والمعرفي، قام الأستاذ الجابري بتقديم قراءات تحليلية نقدية لثلاث نظم في الثقافة العربية، وهي: المعرفة، والسياسة، والأخلاق، وهي موضوع مشروع نقد العقل العربي.
وإذا كان الجابري قد دعا إلى إعادة قراءة تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، فإنه سيعمل في مشروعه فهم القرآن على تنفيذ مشروعه الأول عمليا، ونخلص من مشروعه هذا إلى أنه حافظ على ثبات بنيته الفكرية، وذلك لكي لا يكون مشروعه الثاني مناقضا للأول.
وبهذا، فطريقة تفكير الجابري – التي اتخذت لنفسها مداخل علمية تتماشى ومرتكزات العقل والمنطق – كان غرضها الاستمرار في سيرورة الحركة العقلانية التي عمل على تأسيسها والانتصار لها.
ومن هنا، نخلص إلى أن الطريقة التي أنتج بها الجابري تتسم بالدقة والموضوعية، تفاديا لترك ثغرات والسقوط في منزلقات الآخرين، مدشنا بذلك قوله في قضايا يرى بأنها لم تطرح من قبل مثل قوله في نقد العقل العربي ومستوياته الثلاثة: المعرفة، والسياسة، والأخلاق.