بقلم: الأستاذ عبد الواحد بن مسعود من هيئة المحامين بالرباط
نداء صريح وبصوت عال لكل من يملك عقارا محفظا، فصاحب العقار الخاضع لنظام التحفيظ العقاري سواء كان العقار منزلا أو متجرا أو أرضا عارية أو فلاحية، يجب عليه كل أربع سنوات وبكيفية منتظمة أن يراجع المحافظة العقارية ليتأكد من أن العقار الذي في حيازته مازال في ملكه وإلا قد يجد المالك الشرعي للعقار المحفظ نفسه محكوما عليه بالإفراغ من ذلك العقار بواسطة قرار استعجالي لأنه أصبح يحتل العقار بدون حق ولا سندويتعين إفراغه ولو بتسخير القوة العمومية وتحت غرامة تهديدية قد لا تقل عن 1000 درهم عن كل يوم يتأخر فيه عن تنفيذ القرار القاضي عليه بالإفراغ، والإفراغ قد يشمل المالك الشرعي للعقار أو من يقوم مقامه أو بإذنه، كزوجته وأولاده وأبويه ومن هم تحت كفالته، وقد يحرم المالك الشرعي حتى من مهلة استرحامية ليجد المالك فرصة يعثر خلالها على حل لدفع الطامة التي ألمت به.
————-
هذا ما حملته الفقرة الثانية من المادة 2 من مدونة الحقوق العينية، ومن ضمن المستجدات التي انتظرها منذ 50.
هذا ما حملته تلك الفقرة ووافقت عليها الحكومة في مجلسها، والأمانة العامة للحكومة في مراجعاتها، ولجنة العدل والتشريع في المجلسين خلال دراستهما، والجمعية العمومية للبرلمان خلال تصويتها؟
ماذا جاء في تلك الفقرة التي لم يعرف التشريع العقاري مثيلا لها منذ أن طبق نظام التحفيظ العقاري في بلادنا؟ ونص تلك الفقرة كما يلي:
((إن ما يقع من إبطال أو تغيير أو تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك به في مواجهة حسن النية، كما لا يمكن أن يلحق أي ضرر إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب أو تغييره أو التشطيب عليه)).
ما هو تفسير هذه الفقرة التي حملت مقصلة حادة وأجهزت على حق الملكية وعلى الضمانات التي كانت تحوط به؟
تفسير الفقرة هو أنه إذا قام مجرم وما أكثر المجرمين في هذا الزمن الرهيب، وكان ذلك المجرم يحترف تزوير الوثائق والمستندات مدعما ومستعينا بعصابة وزور على مالك عقار محفظ وثيقة تشهد أن المالك باع ذلك العقار، وبادر المشتري وغالبا ما سيكون له مشارك أو مساهم في الجريمة، وسجل المزور عقد البيع في الرسم العقاري وانتقلت إليه الملكية، ومرت أربع سنوات على هذا التسجيل ولم ينتبه المالك الشرعي لذلك التفويت المزور، فإن حقه في المطالبة ببطلان ذلك العقد والتشطيب عليه من الرسم العقاري يسقط ويضيع العقار، ولا رجوع له على المشتري لأنه في نظر تلك الفقرة المشؤومة وفي نظر السادة المشرعين أن ذلك المشتري يعتبر حسن النية، وليذهب المالك الشرعي إلى الجحيم.
علينا أن ننتبه لعبارة ((حقه يسقط)) فالحق الذي هو عطية من الله سبحانه يسقط بفعل جرم بشري، ومعنى أن الحق يسقط أن مدة الأربع سنوات هي مدة سقوط فلا يلحقها توقف أو انقطاع، وليت المشرع كان ذكيا وجعل تلك المدة مدة تقادم وليست مدة سقوط، وأتمنى أن يكون مشرع تلك الفقرة يدرك الفرق بين مدة السقوط ومدة التقادم.
وهكذا، فالقانون الذي يحمي المصالح ويقوم الاعوجاج منح تغطية فولاذية للمشتري متذرعا بالمحافظة على مبدإ استقرار المعاملات، واعتبر المشرع أن المشتري حسن النية لما اشترى عقارا بعقد مزور ووجد له العذر على أساس أنه وضع ثقته في البائع المجرم، مع ذلك المشتري قد يكون متواطئا مع البائع في ارتكاب جريمة الزور واستعماله.
ونلقي عدة أسئلة: ما هي الأسباب والدواعي الذي دعت المشرع إلى سن هذه الفقرة؟ هل ذكرت أسباب النزول في الأعمال التحضيرية وفي المذكرة الإيضاحية؟ هل خلت رفوف البرلمان من المشاريع والاقتراحات التي تخدم مصلحة الشعب برمته ومصلحة البلاد؟ ولم يبق أمامه سوى تزكية اغتصاب العقارات؟
أم كان سن هذه الفقرة تحت ضغط جهات حشرت أنفها في التشريع العقاري لتجد فيه ما يخدم مصالحها ولو ترتب على ذلك ضرر جسيم؟
ما هي النتائج الوخيمة التي ستترتب على تطبيق هذه الفقرة؟
ـ أن المواطن سيقتنع بأن بلاده تفتقر للمشرعين المتخصصين الأكفاء الذين يجب أن يميزوا بين الحق والباطل والحلال والحرام.
ـ أنه لا يمكن التعويل على مشرع يصادق على مشاريع قوانين جائرة، ويغيب عن جلسات اللجان عند مناقشة تلك المشاريع.
ـ أن المشرع لا يتخيل عواقب نص تشريعي معيب إذا خرج لحيز التطبيق والتنفيذ، ولأنه لا يعود للمراجع الفقهية عند مناقشة موضوع له جانب فقهي صرف.
ـ أن هذه الفقرة فتحت للمزورين مجال التزوير في المجال العقاري، وخاصة العقارات التي يوجد ملاكها خارج البلاد ومن المقيمين في بلدان المهجر.
ـ أن المالك الذي يوجد في حالة صحية مزرية، ومصاب بشلل، أو في غيبوبة لا يمكن له أن يراجع المحافظة العقارية كل أربع سنوات ليطمئن على عقاره.
ـ أن هذه الفقرة تدل على محاباة الجهات التي تستولي على أراضي الغير وتقيم عليها عمارات شاهقة وتجني من ورائها أرباحا طائلة، ولما يطلب المالك الشرعي رفع الاعتداء المادي عن عقاره يواجه بأن المشتري حسن النية.
ـ هذه الفقرة ستورط القضاء، لأن القاضي سيجد نفسه ملزما بتطبيق تلك الفقرة وهو مقتنع بفداحة ظلمها، ولا يمكن له أن يمتنع عن إصدار الحكم وإلا عُدَّ ناكلا للعدالة ويقع تحت المسؤولية الإدارية.
ـ أن القضاء سيزكي الفعل الجرمي ويسبغ عليه الشرعية.
ـ أن المجتمع سيفقد الثقة في نظام التحفيظ العقاري ويصبح اقتناء العقار غير المحفظ مفضلا لأن تفويته محاط بضمانات بحكم خضوع التفويت لمراقبة القاضي الشرعي، ومراقبة سجلات الملكية في محكمة التوثيق.
إذا، يجب إيجاد حل سريع وفعال وناجع، والحل الذي تتطلبه حالة الاستعجال أن يتدخل المشرع لإصلاح سوء صنيعه ويصدر على الفور قانونا يلغي به تلك الفقرة، ويمحوها من الوجود، ولكن هذا الحل قد يتطلب مدة زمنية طويلة ونحن أمام حالة مستعجلة والخوف من وقوع مصائب يصعب تدارك نتائجها.
وإلى حين صدور ذلك القانون، نقترح على المحافظة العقارية كلما قدم لها عقد تفويت عقار أن يقوم المحافظ باستدعاء البائع والمشتري، ليؤكدا موقفهما من ذلك التفويت ويحرر المحافظ محضرا ويوقع من طرف أطراف العملية ويشهد المحافظ على ذلك ويسلم لكل طرف نسخة من ذلك المحضر، ويقع الاحتفاظ بنسخة منه في الملف العقاري.
هذا إجراء إداري تنظيمي لا يتطلب صدور تشريع أو قانون أو حتى مرسوم.
بالنسبة للقضاء، إذا عرضت عليه حالة لها صلة بهذا الموضوع فما هو الحل الذي يتعين الأخذ به ويكون سندا قانونيا وشرعيا؟
هنا لابد من الرجوع إلى المصادر القانونية والفقهية، ومنها فقه الإمام مالك، ونقول:
ـ إنه ما دام العقد مزورا فهو عقد باطل وما بني على الباطل فهو باطل.
ـ إن هذا البيع يعتبر فاسدا حيث ينقصه رضى وموافقة المالك، والعقود الفاسدة لا يمكن تصحيحها ولو طال زمن انعقادها والفصل 19 من قانون الالتزامات والعقود صريح وواضح.
ـ إن القواعد العامة تحرم بيع ملك الغير، ولا يمكن تصحيح ذلك البيع إلا بإجازة وإقرار من قِبل المالك الشرعي تطبيقا لمقتضيات الفصل 485 من قانون الالتزامات والعقود.
ـ إن المالك الشرعي أحق بالحماية لأن دستور المملكة ينص على أن حق الملكية حق مضمون.
ـ إن البيع المزور فيه ضرر، والقاعدة أنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، والضرر يزال، ولا يزال الضرر الأصغر بضرر أكبر.
ـ إن القانون أعطى للمشتري عدة وسائل وطرق للرجوع على البائع المزور، فله حق الرجوع بدعوى المسؤولية التقصيرية، وله حق التشكي بالنصب والزور واستعماله.
ـ وإن القانون الجنائي يعاقب على النصب، والزور، والهجوم على مسكن الغير، وانتزاع الحيازة.
ـ بالنسبة لموضوع وقاعدة حسن النية فالفصل 457 نص على الحل عن تضارب مبدإ حسن النية وجاء فيه:
((عندما يكون كل طرف من الطرفين حسن النية، يرجح جانب الحائز إذ كان حسن النية..)) والمالك الأصلي نيته حسنة وأكثر من غيره.
ومن الناحية الشرعية، نقول إن القرآن الكريم نهى عن أكل أموال الناس بالباطل ونهى عن الزور، والنبي صلى الله عليه وسلم له عدة أحاديث تتعلق بالزور، وقال: “إياكم والزور” وكرر النهي عدة مرات مما هو مذكور ومعروف في كتب السيرة النبوية الشريفة.
وإذا كنا نعطي للاتفاقية الدولية بحكم الدستور الأولوية في التطبيق، وعلما أن قوانين الاتفاقيات تعتبر سابقة في التطبيق على التشريع الوطني، ألا نعطي لأحكام الشريعة الإسلامية الأسبقية على غيرها في التطبيق وإحقاق الحق ومحاربة الظلم وأكل أموال الناس بالزور والبهتان؟
إن صاحب الحق لا يسقط حقه إلا إذا علم علما يقينيا بأسباب السقوط والتهاون أو التراخي في حماية حقه بدون عذر مقبول امتثالا لقوله تعالى: “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” صدق الله العظيم.