الحقيقة الضائعة | إقحام الجيش في مصيدة الانتخابات مؤامرة على الاستقرار


في شتنبر 1975، استصدر الملك الحسن الثاني، فتوى من رئيس المجلس العلمي بفاس، عبد الواحد العلوي، للسماح لكل جنود القوات المسلحة الملكية المشاركة في حرب سيناء، بالإفطار في رمضان، حيث ذكرت الفتوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لجنوده في إحدى الغزوات: “إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة”، وهو ما علق عليه الحسن الثاني في خطاب سابع شتنبر 1975 متوجها بالخطاب ((لأفراد قواتنا المسلحة، الذين هم مطوقون بمسؤولية عسكرية، تقتضي اليقظة والحيطة، واستكمال جميع مقومات المملكة الفكرية، والقدرة البدنية بأن لهم رخصة الإفطار في رمضان)).
والقائد الأعلى للجيش في هذين السطرين، حدد مسؤولية الجيش، ودوره تجاه جميع مقومات المملكة الفكرية.. وكأنه يجيب على هذا الهوس الفكري، الذي أثاره اقتراح رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، بتعديل القانون 57.11، المتعلق باللوائح الانتخابية ((للسماح لحاملي السلاح من جميع الرتب، وكذا أعوان القوة العمومية كيفما كانت تسميتها، بعوض أو بدون عوض، والذين لهم الحق في حمل السلاح خلال مزاولة مهامهم)) بالسماح لهم بالمشاركة في العمليات الانتخابية.
بمعنى أننا سنرى حملة الرشاشات والبنادق والمسدسات، يصطفون بخوذاتهم، وربما يوقفون شاحناتهم العسكرية، وربما الدبابات، مصطفة في أبواب مكاتب التصويت.
أما خلفية هذا الاقتراح، فقد وصفها النائب البرلماني عبد الله بوانو، في البرلمان، بأن تساءل، مثلنا عن أهداف اقتراح مثل هذه التوصيات.
توصيات تأتي متزامنة مع الحملة العالمية ضد الإرهاب، وقد بدأت دول متأصلة في الديمقراطية، مثل فرنسا، تتساءل عما إذا كانت عمليات تجنيد رجال الجيش والأمن في الحرب ضد الإرهاب، ستضعف حقوق الإنسان، لتنطلق أصوات في أطراف اليمن وليبيا وسوريا، وتونس، ومصر، وربما نحن مستقبلا، متسائلين عن هذه الكوارث الجهنمية واستفحال العمليات الإرهابية، وقد أصبحت مبررا للتساؤل، عما إذا كانت حقوق الإنسان، بالنسبة لمكونات داعشية تذبح الإنسان، هي السبب في هذه الكوارث الأمنية التي أصبحت تهدد الأمن العالمي.
حسابيا، فإن اقتراح هذا المجلس الوطني المغربي لحقوق الإنسان، يعني بالنسبة للمصوتين حاملي السلاح(…) أن أصواتهم عندنا، لن تضع في الصناديق، أكثر من خمسمائة ألف صوت، وهو العدد الذي لا يتعدى أصوات حي واحد في مدينة كالدار البيضاء.
أم أن القصد، هو فتح باب للصراع الفكري والاجتماعي والسياسي، على مستوى المؤسسة المقدسة، القوات المسلحة الملكية، لتخرج من ثكناتها، وتبتعد عن مهامها النبيلة في الدفاع عن الوطن كله، لا حزب بعينه، إضافة إلى أن صاحب الاقتراح، بالسماح لحمالي السلاح في الاقتراع، لم يذكر في اقتراحه، أنه لن يكون ذا جدوى، إذا لم يحدد حتمية دخول أقطاب ومرشحي الأحزاب السياسية، للثكنات، لتنظيم حملاتهم الانتخابية، ومشاركة الجنرالات والكولونيلات والقباطن والليوناوات والعسكر العاديين، في التجمعات الانتخابية، لمعرفة البرامج التي يدعو لها مرشحو الأحزاب، سواء في مكاتب أحزابهم، أو في تجمعاتهم الانتخابية.
وإذا كان المشروع الثوري(…) لمنظمة حقوق الإنسان، يخطط أو يدعو لمشاركة حملة السلاح في التصويت، فكيف تحرمهم من حق الترشيح، مادام كل من له الحق في التصويت له الحق في الترشيح، وهذه هي الديمقراطية، حتى نرى ضباط القوات المسلحة غدا يترشحون لرئاسة المجالس البلدية، والقروية، ولعضوية البرلمان، ولماذا لا للحصول على أغلبية لرئاسة الحكومة.
ونحن الذين غير بعيد منا، نرى أن الفرق بيننا وبين الجزائر مثلا، أن دولة الرئيس بوتفليقة، تعيش أزمة مع جيشها الذي يحكم، ويفرض سياسته على الشعب الجزائري، بينما الجيش المغربي، يخيف الجزائر، لأنه جيش احترافي.
أكيد بحكم ما تحتفظ به الأرشيفات، إن رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، يعزف على النغمة التي ضرب عليها محررو الدستور الأخير، الجديد، وكان بينهم عدد من قدماء الثوريين والتقدميين(…) نجحوا في تغيير وإلغاء الفصل 65 في الدستور الملغى(…) والذي كان ينص على ((أن إعلان حالة الحصار وإشهار الحرب، يحال(…) على المجلس الوزاري)) ليتم تعديله في الفصل 49 من الدستور الجديد، وتصبح ((من حق المجلس الوزاري أن يعلن حالة الحصار وإشهار الحرب)).
بينما خطورة تسييس الجيش، بدل مهمته الأساسية النبيلة المحايدة(…) هي الكامنة وراء النوايا الراغبة في تسييس الجيش المغربي، ويحفل تاريخ الشعوب المتخلفة مثلنا(…) بنماذج الجيش المسيس، وقد رأينا مؤخرا كيف دعمت فيالق من الجيش اليمني حزب الحوثيين، الشيء الذي أدى إلى اختلال التوازن في اليمن، مادام الجيش المسيس تتحدى هياكله من أعلى دباباتها، ويحكم تفوقها التكويني والمسلح، جموع المتسيسين الحزبيين، وطبعا، تفرض عليهم إرادتها.
في الأيام التي لم يكن فيها للمغرب دستور ولا تصويت، ولا ديمقراطية ولا تحديث، نذكر ذلك الحدث الذي هز المغرب، عندما تذمر الجيش المغربي، في ذلك اليوم 17 أبريل 1911، قرابة مائة عام إذن، حينما فوجئ السلطان مولاي حفيظ، وهو في قصره بجماعة من العسكر تدخل عليه وهي تنادي: الشكوى على الله وعليك أ مولاي حفيظ.. لكن مولاي حفيظ غضب، ولم يقبل هذه المظاهرة العسكرية داخل القصر، وكلف رئيس حكومته، أن يأمرهم بأن يذهبوا للاستحرام بضريح مولاي عبد الله، حتى يقدموا اعتذارهم، إذن؛ ((لكن أحد وزراء السلطان، وكان حاضرا، وهو محمد بن الحسن الحجوي، كتب أن أولئك الجنود، رفضوا الاقتراح وصاحوا: سنذهب إلى القشلة ونقاتل(…) فإنما أتيناكم لرفع تظلماتنا، وأنتم تأمروننا بالاحترام وخرجوا مغتاظين)) (الحركة الحفيظية. علال الخديمي).
فقد حدث احتجاج العساكر المغاربة، بعد سماعهم لأخبار عن اتفاق السلطان، لإمضاء عقد الحماية مع فرنسا، وعله من الدروس التي استفاد منها الملك الحسن الثاني، عندما جعل من جيشه بعد الاستقلال، نموذجا للجيش الاحترافي، الذي تنحصر مهامه في حماية الوطن كله، بعيدا عن الأحزاب وعن التلاعبات السياسية.
أخطر من مظاهرة عساكر القشلة المغاربة في ساحة القصر الملكي، ما حصل أربعين عاما من بعد، في سنة 1951، عندما أراد الملك المصري فاروق زعزعة الحكومة المنتخبة، بمقتضى الدستور، والتي كان يرأسها زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس ((فقرر تعيين الجنرال محمد نجيب رئيس نادي الضباط، وزيرا للحربية، كأول محاولة لعسكرة السياسة(…) الشيء الذي رفضه رئيس الحكومة النحاس، فغضب الملك، وأراد تعيين السياسي علي ماهر، رئيسا للحكومة، فيدخل على الملك في قصره، قائد الجيش الفريق حيدر، ليفاجئ الملك، باحتجاجه على تغيير حكومة النحاس، دون استشارة قائد الجيش(…))) (النظام في أربعة أيام. محسن محمد).
بل إن الأوضاع تطورت، وكانت غضبة القائد العام للجيش، المحسوب على النظام الملكي، سببا لانقلاب عسكري سنة من بعد(…) كان رئيسه هو الجنرال نجيب، الذي سبق للملك فاروق أن عينه وزيرا للدفاع.
لأنه في ذلك الزمن، كما في زماننا هذا، كان مصير مصر، معلقا بصراع إنجليزي أمريكي، الإنجليز متشبثون بالدستور المصري وبالديمقراطية، وبالتالي مؤيدون للحكومة الشرعية، حكومة النحاس، والأمريكيون ينافقون الملك، ويصرح سفيرهم “اللورد كيرين”، بأن الملك فاروق ((هو العنصر الوحيد الذي يجمع ويوحد)) ولكنهم في السر، كانوا يحضرون للثورة التي حصلت سنة من بعد.
لأن الجيش كل جيش، بعساكره وأطره، يحظى بالاحترام والعناية، في إطار حصر مهامه في حماية الوطن ككل، وعندما يبدأ التعامل معه كسند للعمل السياسي، أو لأغراض مصلحية، لدى الهياكل الحاكمة، التي تبحث عن استعماله كسند انتخابي، فإن الخلل يحصل، مثلما كان الوضع في الجزائر، عندما اختفى الرئيس القوي، الهواري بومدين، وأراد السياسيون في حزب جبهة التحرير، بانقراض زعيمهم، سارعت قيادات الجيش، للاستيلاء على الحكم، ولكنهم إبعادا لكشف أوراقهم، كلفوا إحدى السيدات، لتنظيم عملية الاستقطاب. ((وتأسست جماعة تسمى “جماعة حليمة” وهي زوجة الرئيس الجديد، الشاذلي بنجديد، التي سخرت مجموعة من المدنيين، حتى تغطي على التدخل العسكري في سياسة الجزائر، ليتزعم أخوها الدكتور أمين بوركبة الحركة المؤقتة، وزوجت ابنتها، بمدني آخر “قدور الأحول”، وأخ الرئيس الشاذلي، عبد المالك، لتنفيذ المخطط العسكري لزوجها رئيس الدولة الجنرال الشاذلي بنجديد، الذي كان يريد دعم حكمه بزملائه العسكر، ليظهر وسط جماعة حليمة، الكولونيل توفيق، الذي أصبح قطب المخابرات الجزائرية، الذي هو في الواقع، واضع أسس الحكم العسكري للجزائر)) (مافيا الجنرالات. هشام عبود).
وهو الوضع الذي أدى إلى اندلاع أول ثورة إسلامية في الجزائر، نظمتها جبهة الإنقاذ بزعامة عباسي مدني، بعد أن مهدت مجموعة مدام حليمة، لتسليم الحكم إلى الجنرالات: خالد نزار، العربي بلخير، بلعباس غزيل، توفيق، عبد المالك كزناية، الذين رصصوا كخلفاء لهم: الجنرالات محمد تواتي، أيت عبد السلام، العماري، ولازال من الصعب جدا على الجزائر، تحت أنظار رئيس الدولة المتعب، بوتفليقة، أن تحلم بديمقراطية حقيقية مادامت الديمقراطية، لا تتفاهم أبدا مع حكم العسكر.