الأسبوع – محمد بركوش
لم يكن رئيس جامعة القاضي عياض بمراكش السيد عبد اللطيف ميراوي في حاجة إلى من يضغط (كما ورد بإحدى الجرائد الوطنية) في اتجاه تمكينه من ولاية ثانية واستمراره كمسؤول أول عن جامعة ذات إشعاع كبير وصيت عال سواء داخل المغرب أو خارجه.
المؤهلات المتوفرة لديه والحظوظ القائمة بالنسبة إليه كافية لإعطائه الأولوية ومنحه الأسبقية، خاصة وأن المنافسين الاثنين لا يخشى منهما بلل كما يقال، فالرجل وكما يشهد بذلك الكل أثبت أهليته وتفوقه في مجال التسيير والتدبر والحفاظ على سمعة الجامعة وحرمها، وأبان عن مواقف متَرَفعة نبيلة (منذ تعيينه بالمدينة الحمراء) تشرف كل من ينتمي إلى عالم الفكر والثقافة والتعليم، مواقف يتعذر في هذا الحيز الضيق الإلمام بكل جوانبها الممتدة عبر سنوات أو البعض منها، خاصة الجوانب التي تهم المسؤولية والتعامل المرن وحسن الإصغاء.. وهي مواقف ساعدته على صنع العديد من لبنات المستقبل الجامعي بتميز حقيقي ووفرة في الجدية وجودة في الإتقان وتوجه منفتح باتجاه العمق والتأصيل والريادة في كل شيء، تلك الريادة التي ستبقى شاهدة على حرص الرجل وحزمه وتفانيه وستذكرها له الأجيال المقبلة، خلافا لآخرين مرورا كما يمر السحاب، بحيث تساوى حضورهم والغياب.
ليس للرئيس “الذي فكك العناصر المتحكمة” دليل يأس كما قيل مما تروجه “الجماعة المشاغبة” التي يتزعمها شخص غير صادق بالمرة، روحه العالية تمنعه من السقوط في حلقة الإحباط وتحيي فيه الأمل الكبير، لأنه متعود على ألا ينهزم عند أول إخفاق خاصة في المعارك الصغيرة أو الحروب البسيطة التي لا تحتاج إلى كثير جهد بقدر ما تحتاج إلى قليل من الذكاء وحسن التخلص.
لقد قضى الرئيس عبد اللطيف أربع سنوات بجامعة القاضي عياض كانت كافية لتغيير نمط العمل وإعادة الهيكلة وفرض نظام يخضع للضبط والانضباط، والقضاء على التسيب واستغلال المواقع التي كانت تسمح للبعض بالمتاجرة في البحوث والمقالات العلمية وأشياء أخرى بعيدة كل البعد عن المجال التعليمي، ولبناء فضاء مثالي للحوار بالكلمة والفكرة والمشاريع وتأهيل الطلبة.. فضاء قادر على احتواء عالم لا يكتنفه الوهم والفوضى، ولا تغيب عنه الحقوق المتعارف عليها في كل الأوساط الجامعية، فهو مهووس بجعل الجامعة ذات مكانة عالية وإشعاع مؤثر في إمكانها استقطاب اهتمامات الباحثين من داخل المغرب وخارجه، لذلك كان يمدد إسهاماته واهتماماته لتتجاوز أسوار الجامعة رغم شساعتها، ويعمل على صياغة حضور فاعل وحيوي لها (وللمجدين من أساتذتها وأستاذاتها) في المحيط الثقافي العام، لأنه وكما قيل رجل مشبع بأفق فكري حداثي متطور يروم تغيير القيم السائدة في الفضاء الذي يعيش فيه ويتشرف بإدارة شؤونه، وذلك عن طريق الإسهام في زرع ثقافة الحوار والتواصل، وممارسة حرية التفكير والنقد، وترسيخ فضيلة العقل عوض ممارسة “البلادة اليومية” التي يحتضر معها الإبداع والابتكار، وتلك خصال اكتسبها أو أخذ الكثير منها بالاحتكاك والتفاعل والانفتاح على الآخر والتربية السليمة التي يكبر معها الاعتداد بالنفس والكرامة وحب العمل.
لقد ظل الرئيس مخلصا وفيا لحقيقة واحدة بفضل فيوضات حكمته ألا وهي الارتقاء بالجامعة والخروج بها من الدائرة الضيقة التي وضعت فيها من قبل، عانى من أجل تطبيقها كثيرا حتى أصبحت المعاناة وطنا يستضيفه (كما يقال)، ولم يجد المناوئون في الأخير إلا الاعتراف للرجل بحضوره الذي ملأ الدنيا وبتفوقه في خلق فضاءات جديدة وجعلها تتسع لمختلف التعبيرات واللغات والإيديولوجيات (في إطار الاحترام والاعتراف بالاختلاف) وسعيه إلى مد جسور التواصل، هذا الأخير الذي كان يشكل حجر الزاوية في عمل الرئاسة وقاعدة أساسية لكل حوار بناء، ولذلك نجح في ملء الفراغ “الذي كانت تعيش الجامعة على إيقاعه” بإعداد اللقاءات ذات البعد الدولي والندوات ذات الحمولة العلمية، وصنع موقع الوسيط الثقافي والحضاري بشروطه الملائمة للتبلور والفعل المنتج، وتبني الاشتغال المستمر بثنائية الذات والآخر، والمساهمة بفعالية ونشاط في المحافل والمنابر الدولية ذات الامتدادات العميقة والتي كانت في الكثير من المناسبات تختار جامعة القاضي عياض بمراكش لتصريف أنشطتها وإلقاء محاضراتها القيمة وتكريم شخصيات علمية وأدبية وسياسية اعترافا لها بما أسدته في مجال العلوم والحريات، وغيرها.
إن تجاوز الرئيس للمحطات الصاخبة “المفتعلة” بنجاح وخروجه من كل المعارك “المصطنعة” بانتصار ساعده في إعطاء الكثير للجامعة وفي إفادة الأساتذة والطلبة بالتجربة والرفقة الحسنة، وخصال الوفاء والإخلاص والمثابرة، إذ لم ير قط إلا وهو منهمك بجدية عسكري أو فلاح من الجبل كما قال إبراهيم ديب، متقيدا في ذلك بمنهجية واضحة وشلال من التصورات والقناعات الراسخة والرؤى ذات البعد المستقبلي القائمة على الاكتشاف وسبر أغوار الواقع لمساومة حلم الآتي، هذا الأخير الذي يتمنى الكل أن ترتقي فيه الجامعة إلى أعلى مستوى، وتتخلف الصراعات وتزول أقفال النذر (كما يقال) التي كثيرا ما تعلق على أبواب بعض المكاتب للاستفادة من “جود” قلة قليلة من المكلفين بالبحوث والمقالات العلمية التي تنشر بأسماء غير أصحابها.