الحـقــيقة الضــــائعة | قراءة في الوثائق المقرصنة عن المخابرات المغربية
لكل مهمة أصولها.. ولكل صنعة رجالها.. فأحرى مجال المخابرات، الذي حدد له قطبه الأمريكي “بوب وود وورد”، منطلقاتها وشروطها بقوله: ((إن المنطلقات الأساسية لعمل المخابرات، ثنائية، لا ثالث لهما: الانتهازية وعدم الثقة، لأن الأصدقاء يمكنهم أن يغيروا ولاءهم من يوم لآخر(…))) (كتاب السيا. بوب وود وورد).
ولقد توسع عملاء المخابرات المغربية هذه الأيام، وبرعوا في تقليص أبعاد الكارثة الإعلامية التي هزت أركان مكاتب الوثائق والمستندات المغربية “لادجيد”، بعد أن استطاع فاعل إلكتروني، أطلق على مصدره اسم “كريس كولمان” إغراق موقعه في “تويتر” بعشرات الوثائق المنسوبة إلى الجهاز المغربي، الذي كان منذ تأسيسه على أيدي الجنرال الدليمي ولازال، مهابا وشبه مقدس، رغم التغيير الجوهري، الذي حصل على رأسه، عندما أسندت رئاسته، إلى قطب مدني، وكان جميع أقطابه عسكريين، نظرا للارتباطات الاستراتيجية الأساسية في هذه المؤسسة، وبعد الجنرال الدليمي، والجنرال عبد الحق القادري، والجنرال الحرشي، تم في سنة 2005 إسناد الإدارة إلى واحد من رفاق الدراسة للملك محمد السادس، الذي اختار رجلا من أقوى المغاربة، ارتباطا بالقيم والأخلاق، يس المنصوري، الذي أسهمت اختياراته العقائدية، بدور كبير، في تبريد الحمأة التطرفية في المغرب، وساهمت في التمهيد لهذا الحاضر الذي يتفق الجميع، على أن المغرب، هو الدولة العربية الوحيدة التي أفلتت من صقيع الربيع العربي، وجعلت المغرب، سياسيا مصونا من الهزات، وهو بدون شك الواقع الذي دفع الأطراف، المناوئة للمغرب لأن تضرب بعنف حتى قبل من سمى نفسه “كريس كولمان” لتخديش هذه المرآة التي بقيت وحدها سليمة، منذ عشر سنوات.
إلا أن ما سميته “الأطراف المناوئة” قد لا يكون بالتحديد، هو ما فسرته بعض الأقلام الراقنة(…) على المواقع الإلكترونية بأنه فقط نوع من الدعم الإعلامي للبوليساريو، أو ما كتبه أحد المواقع المستفيدة(…) بأنه “قد يكون عملية انتقامية” معترفا بأنه “عملية موجهة” ليتساءل موقع آخر: ((هل تقف الجزائر وراء تسريب وثائق سرية لمسؤولين مغاربة، لأن موضوع اهتمامات هذه التسريبات – كما قال الخبير(…) مروان هرماش، لهسبريس ((بأن الاختراق حصل في شأن الحسابات الإلكترونية لأشخاص يتعاملون مع الأجهزة(…))) إذن فهو اعتراف بأن الموضوع غير مرتبط بقضية الصحراء وحدها، لأن المتعاملين مع الأجهزة المغربية، ليسوا، مبدئيا، مع البوليساريو ليتناقض خبير آخر(…) اسمه “محمد تمارت” مع أطروحة زميله(…) هرماش، حين كتب لنفس الموقع: إن الجزائر هي التي تقف وراء هذه العملية. فالخبراء إذن، غير متفقين.
وكأن هؤلاء الخبراء المغاربة، لم يطلعوا على العمل الجزائري الحقيقي، الذي تمارسه الأجهزة الجزائرية العنيدة، هذه الأيام(…) بنشر آلاف الوثائق السرية حول المنطقة، الوثائق التي من المؤكد، أنها لم تصل بعد للمغرب.
متدخل آخر، أعطى يد الله في تقريع أطروحة “الحدث العابر” فوصف هذا السنودن الإلكتروني، بالغراب الذي يقرصن الحسابات، وينشر المراسلات الشخصية(…) متقربا من محتوى الوثائق المنشورة، ومتسائلا ((هل ليس من حق لادجيد المغربية (جهاز المخابرات) أن يعطي الأموال للصحفيين الأجانب، لأن المشكل هو أن هؤلاء الصحفيون هم الذين يقبلون هذه الأموال)) (موقع ميديا 24).
وتبقى هذه الدفوعات الدفاعية(…) وبكل أسف، داخلة في إطار شبه تبرير للطريقة التقليدية الموروثة عن أيام زمان، والتي كانت مبنية على أساس الدنيا بخير، والعالم كله قبيح، ونحن الزوينون(…)، بينما الواقع، هو أن الأمر يتعلق بزلزال استخباراتي ضخم، عرى المستور، عما كنا لا نعرفه، من أخطاء فادحة، لا تتمثل خطورتها فيما نشر وتم فضحه، وإنما في الطريقة التي وقع بها تسريب وثائق حقيقية(…) بأسماء حقيقية، وعن مهام حقيقية. ولا يمكن تصور، أن الذين يدخلون لمكاتب الجهاز المغربي، ويتعاملون معه، ويأخذون منه(…) ويعطون، هم عملاء للجزائر أو البوليساريو، لأنه إذا كان الأمر هكذا.. فستكون الكارثة أضخم، ليصبح مأمولا، ألا تكون النية الغير مشكوك في سلامتها، للمسؤول عن هذا الجهاز قابلة للتوقف عند هذا الحد، الحد الذي يتحتم معه أن يتم فتح تحقيق واتخاذ عقوبات في حق الفاعلين الحقيقيين، وعدم السقوط في فخ إفراغ الكل، في حصيلة المؤامرة الأجنبية، ولا يظهر أنها كذلك من خلال ما تنطق به هذه الوثائق المسربة، الوثائق التي تزامنت، وكأنها مخططة(…) لنسف التدخل الناجح لرئيس المخابرات المغربية يس المنصوري أمام مجلس الأمن، الذي قدم تحت قبة الأمن العالمي، صورة عن الأخطار التي تهدد المغرب.
إن الواقع الملموس، المسنود بالصور(…)، هو أن أغلب الوثائق المسربة، ممضاة من طرف شخص واحد معروف، أو موجهة إلى نفس الشخص، وهو صحفي نعرفه رئيسا لمجلس إدارة جريدة يومية، كانت لسان حزب كبير، وهو الذي اشترى مجلة أسبوعية، وهو المحرر الدائم في قناة إلكترونية، لمواضيع تدعو إلى الإخلاص الوطني، والإصلاح السياسي، وترديد الأطروحات العقائدية للنظام.
وإذا كانت تلك الوثائق مرسلة من طرفه، أو موجهة إليه حيث يتواجد اسمه في كل وثيقة واردة أو صادرة، فمن سربها للمسمى كريس كولمان، ثم إن الوثائق التي تحمل اسم هذا الصحفي(…) كلها ذات أهداف انتهازية شخصية، تنطق سطورها بالرغبة للحصول على الأموال التي ليست موجهة للصحفيين الأجانب وحدهم إضافة إلى أن الأخبار والمعلومات التي يتوصل بها وينقلها هذا الجيمس بوند، كلها أخبار سبقته لنشرها وكالات الأنباء.
وحتى إذا كان هذا الصحفي عميلا فعليا للجهاز، أبواب لادجيد مفتوحة له، وصناديق أموالها كذلك، فكيف يكتب في وثيقة: ((الذهاب إلى لندن يوم كذا، والرجوع إلى باريس يوم كذا، والرجوع إلى البيضاء يوم كذا، دون أن ننسى شراء هدية لمدير الجريدة الفلانية، وإني محتاج لأدفع أجور شهور يوليوز، وشتنبر للجريدة الفلانية، ولجريدتي(…) 6000 أورو، فيها 2000 أورو لجريدتي وألف أورو شهريا للجريدة الأخرى، و6000 أورو للصحفية فلانة و6000 أورو للصحفية الأخرى)) (وثيقة لا يمكننا نشرها لأنها تفضح الأسماء، كما تفضح أن دعم مجلة مغربية يكون بالدولار).
وكان بإمكان هذا البئر الذي لا قعر له، أن يدفع كشوف هذه المصاريف سرا إلى محاسب المؤسسة في الرباط، بينما هو يقدم نفسه على أنه الرجل الأول في الجهاز، فيكتب له أحد العملاء رسالة إلكترونية يقول له فيها ((لا أدري هل أنت الآن في أمريكا أو بصدد كروازيير لعبور المحيط، ولكني أريد منك بعد عودتك للبيضاء أن تنظم لي عطلة رأس السنة بمراكش أنا، وآن(…) وأنت تعرف أن غدا نويل، لهذا تحجز لي بطاقة الطيران وغرف المبيت في الفندق)) ليصدر المتوصل بهذا الإيميل، أوامره بحجز غرفتين(…) في سوفيتيل مراكش، رغم أن المعني طلب الإقامة فقط هو وصديقته آن في غرفة واحدة.
وما بين سطور الرسائل المتبادلة، والموزعة من طرف كريس كولمان، نجد هؤلاء الذين يقضون رأس السنة في فنادق مراكش يمارسون العمل الاستخباراتي(…) من قبيل “غريب أن نتحدث عن سخونة الجو بينما الجو قاسي البرودة”.
هذا الصحفي المغربي، الذي كان يمارس الإخراج الصحفي لرسائله المقرصنة(…) بأن ينشر له كريس كولمان(…) بين الصفحة والأخرى صورا له مع بعض السياسيين الأمريكيين، من قبيل البرلماني الأمريكي ماك كين، والسفير الأمريكي السابق بالمغرب، ليقول لمشغليه، إنه يمارس نفوذه على المسؤولين الأمريكيين في واشنطن.
بل إنه كتب رسالة إلكترونية، نشرت هي أيضا ليحصل على ميزانية لحضور عشاء كبير في واشنطن على شرف مدير السيا، وإن كان المهم ليس هو مدير السيا، وإنما هو الحصول على ميزانية الحضور في هذا العشاء، حيث الحضور في المائدة الأولى يكون بخمسين ألف دولار (الوثيقة موجودة).
المروءة السياسية، تمنعنا من نشر كل الوثائق التي أغلبها متعلقة بهذا الصحفي، القوي، الذي تكشف كل وثيقة مقرصنة أنه تقمص شخصية الباطرون الحقيقي للجهاز المغربي. تصوروا أحد “المراسلين النبلاء”، كما يسميهم منطق السيا، يكتب لهذا الرجل القوي، بصريح العبارة: ((صديقك عظيم. إلخ، ولكن هل يمكنك أن تقدم لي تسبيقا من أجرتي(…)، 38 ألف أورو(…) لأنني مضطر للبحث عن سكن في الأسبوع القادم)).
ولا يمكن اعتبار هذا المراسل، من خلال هذه الوثيقة، مخطئا، فهناك وثيقة أخرى نشرها تويتر، عبارة عن أمر ممضى من طرف هذا الصحفي(…) إلى إحدى الأبناك المغربية، مؤرخ بـ19 أبريل 2012 بتحويل 25 ألف دولار إلى أحد الحسابات بواشنطن (الوثيقة موجودة) فهل تمت قرصنة هذه الوثيقة من طرف إدارة البنك المغربي، أو من طرف المتوصل بالحوالة، أو من طرف المعني بالأمر نفسه، ليكشف عن ضخامة نفوذه.
لو كانت كل الوثائق المقرصنة، متعلقة بوزير الخارجية مزوار أو بنائبته بوعايدة، أو بالسفير المغربي في نيويورك وخبايا اجتماعه بالمبعوث الأممي روس، لكان مشروعا إدراجه في سياق الصراع المغربي الجزائري، ولكنها ثلاث وثائق، بينما كشوف نشاط هذا الصحفي المغربي تتعدى العشرة، مسنودة كما سبق، بصور اجتماعاته وتحركاته وكأنه “جيمس بوند” مغربي جديد.
وبصيغة أخرى لو كانت الوثائق المكشوفة تتعلق بالسيادة المغربية أو بقضيتها المقدسة، لكان واجبا علينا أن نقف بجانب من يستنكر المناورة الأجنبية، أما مادامت أغلب الوثائق المقرصنة، مقرصنة(…) من أجل التعريف بالأنشطة المتباهية(…) لهذا “الكريستوف كولومب” المغربي، فإن الشك في أن تكون له مصلحة في نشر هذه الوثائق هو شك مشروع.
إنه الواجب، يحتم علينا، تجاه وطننا، وتجاه جهازه المقدس في المخابرات، وتجاه قرائنا، أن نسهم – لا كما فعل الآخرون – في الكشف عن الوجه الآخر للحقيقة، خصوصا وأن المغاربة اليوم، لم يبقوا أغبياء ولا غرباء عما ينشر ويذاع، خصوصا وأن ما أذيع ونشر بتويتر والفيس بوك والفوطوكوبي على عينيك يا بن عدي(…)، وعلقت عليه كثير من المواقع والمصادر المغربية، هو سابقة خطيرة، تحتم الحيطة والحذر، والقاصي والداني، وكل مهتم بمجال المخابرات، يعرف أن ما نشر على التويتر العالمي، في شأن هذا الجهاز المغربي، سبق أن فسر خطورته الرئيس الأمريكي ريغان، عندما عقد الحسن الثاني اتفاقية الوحدة مع جماهيرية القذافي سنة 1981، فأمر الرئيس الأمريكي فيما بعد أجهزة السيا أن يراقبوا المغرب بحذر(…)، وكتب: ((راقبوا بدون توقف التعاون مع المغرب في مجال المخابرات، وتدخلوا مباشرة لدى الملك، إذا كانت المعلومات العسكرية ووسائل التخابر(…) أو المصالح التقنية(…) أصبحت مهددة أو(…) ستصبح مهددة)) (وثيقة مؤرخة بـ غشت 1984 منشورة في كتاب السيا. لبوب وود وورد).